سَبَحَات الإلهام
الوصف: كان لديه مشكلة اختلاس ل
كان لديه مشكلة اختلاس لم يعرف لها وجهاً ، ثلاث سنوات والمحاسب الأمين يفكّر في الأمر دون نتيجة ، الإلهام يهجم عليه ليلاً ليصحو ويركض إلى القلم ، ويكتب أشياء ، ثم يعود إلى فراشه .
تسأله زوجه صباحاً عمّا كتب ، فيرفع حاجبيه مستغرباً ، ويذهب ليجد أنه كتب بشكل نهائي حل المشكلة التي أرّقته طويلاً وحرمته الرّقاد !
إلهام تحمله الرؤيا ، يقع على غير توقع ودون مقدمات أو أسباب محددة .
رؤيا العزيز متصلة بفراسة وتوسّم ، فالذي قال : ( أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا ) ، فأصاب الحقيقة كان صادق الرؤيا , وحكاية القرآن عنه تدل على صدق حديثه .
فأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً ، وليس ممكناً فصل المنام عن اليقظة.
عين ثالثة ترى ما لا يراه المبصرون ، نسيج من المعاني الروحية والعقلية ، وتلبّس المستقبل بالحاضر ، وامتزاج التجربة بالعفوية ، ذلك هو " الإلهام " موهبة نفسيّة ترسم الحل ، وتنير الطريق ، والقلم هو البندقية التي تصيد هذه الطريدة السانحة ، الفكرة الملهمة الجديدة والكاشفة التي تهاجمك على غير ترقّب ودون انتظار نوع من الحدس والاستبصار العميق والقراءة الخفية .
لأن الحيوان بدون عقل فهو يعتمد على الإلهام فحسب في طعامه وشرابه وتزاوجه ، وفي معرفة العدو والصديق ، وفي تقدير المخاطر ، وتدبير كيفية تجاوزها ، ولذا سماه الله تعالى وحيا : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ).
الإنسان يملك التعقل ، وهو عملية حسابية مدروسة فيها المقدمات والنتائج ، وهي مناط التكليف والحساب والمساءلة .ويملك الغريزة التي تجعل طفلاً وليداً يلقم الثدي , ويبكي ويخاف ويفرح ويتعلم .
ويملك الإلهام والفراسة " فمن لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه " كما يقول الرجل المحدث الملهم عمر بن الخطاب الذي كان لا يقول لشيء : أظنه كذا إلا كان كما يقول .
طاقة روحية ، ليس مهماً أهي الحاسّة السادسة ، أم المخّ القديم ، ففي كل حال الأمر محاط بقدر من الغموض ، لأنه متصل بالروح ، ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) الإلهام ظن ، وهو الحق دون دليل !
الغربة تُلهم ، فالغربة حرمان ، والمحروم يقرأ بشكل مختلف ، ويلتقط المعنى من زاويته الخاصة .
أحمامةَ الوادي بشرقيِّ الغَضا إن كنت مسعفةَ الحبيب فرجّعي
إنّا تقاسمنا الغَضا فغصونه في راحتيك ، وجمره في أضلعي !
الحِسّ الإبداعي ليس كذبة مصدرها وادي عبقر ، فحين يدخل الشاعر الملهم في تجربة جديدة ينفصل عمّا حوله ، وتتحول عنده الأشياء العادية إلى إيحاءات عميقة ، وكأنها تعبّر عن ذاته ومعاناته .
وأَرَّقَنِي بالرَّيِّ نوح حَمامَةٍ فنُحْتُ، وذُو الشَّجْوِ الغَرِيب يَنُوحُ
على أَنَّها ناحَتْ ولَمْ تُذْرِ دمعة ونُحْتُ وأَسْرابُ الدُّمُوعِ سُفُوحُ
وناحَتْ وفَرْخاها بحيثُ تَراهُما ومنْ دُونِ أَفْراخِي مَهامِهُ فِيحُ
أَلا يَا حَمَامَ الأَيْكِ إِلْفُكَ حَاضِرٌ وَغُصْنُكَ مَيَّادٌ .. فَفِيمَ تَنُوحُ؟
الصفائية الذاتية مصدر إلهام ، فمن صح جنانه فصح لسانه ، والتقي النقي يُلقّي الحكمة ( إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً ) ، والقلب الصافي كالمرآة المصقولة تنعكس عليها الحقائق.
القرب من الله في لحظة تجلٍّ وبوح بدعوة ، فالدعوة إلهام ." اللهم ألهمني رشدي " فالله مانح الإلهام ، والدعاء سبيله ، والإيمان حافزه السكينة هي الحالة النفسية الملائمة للإلهام .
وربما كانت العزلة سبباً في التأمل ، وتهيئة النفس لتلقي الفيض الرباني ، فلا غرو أن كان انتظار الصلاة بعد الصلاة مما يحطّ الخطايا ويرفع الدرجات ، وأن كان الاعتكاف من سنة المرسلين ، وأن قدّم الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بين يدي رسالته بتقدير التحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد .
فكّرت أياماً طوالاً في أمر دون ظفر بطائل ، في لحظة خاصة جاء الحل حين توقف التفكير وتراجعت الأسباب .
وحذارِ أن ترمي بالحل في ظلمات اليأس ، فالإغلاق هو الآخر من إلقاء الشيطان ( يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ) ، ( لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) دع الأمل يعمر قلبك ولو لم تر الضوء .
ربما تقتبس نار الإلهام من مشاهدة الناس ، أو سماع كلماتهم ، أو قراءة وجوههم ، أو من رؤية الطبيعة وتأمل مجاليها ومظاهرها الآسرة .
المشاهدات البسيطة ، العلاقات الجديدة ، مع شخص ، أو كتاب ، أو بلد ، أو عمل ، أو حالة هي فأل جديد باحتكاك ملهم يصنع فرقاً !
لا مندوحة عن التفكير والدراسة وتوظيف الإمكانات العقلية ، بيد أنها وحدها لا تكفي .
100 من كبار أثرياء العالم الناجحين ؛ أكدوا أنهم يعتمدون على دراسة الجدوى ، ولكنهم يعتمدون معها على أمر آخر مهم هو الفراسة أو الإلهام ؛ التجربة السابقة أساس القراءة المستديمة بناء.
العمر تراكم ، فالشباب أكثر حيوية وثقة وإنجازاً ، والكبار أنضج وأحكم ، هذا التوزيع الفطري يرشح الحراك الحالي للنجاح متى تظاهرت عليه الأطراف !
شباب يأخذ زمام المبادرة للتغيير ، ويسمح للكبار أن يقودوا المرحلة ليأخذ هو دور الرقيب والمحاسب .
الروتين المألوف يقتل الروح ، ويئد الطموح ، وبدوامته تذبل الملكات الإبداعية والطاقات الروحية ، وتُنتَقَص إنسانية الإنسان صاحب الأشواق والأحلام ، لصالح الآلة الصماء الخاوية .
حين تأخذ الناس بالأنظمة الصارمة ، والأوامر العسكرية ، والعقوبات التأديبية تحصل على استسلام مؤقت مذعن ، ولكن مع نفوس يخيم عليها اليأس ، ويأكلها الحقد ، وأرواح ذابلة لا تعرف معنى الحب ، ولا معنى الصداقة ، ولا معنى الولاء .
ضيق الفرص في مجتمعات شابة مرتفعة النسبة في مواليدها منخفضة النسبة في إفساحها واحتوائها ووعيها بمتطلب العيش الكريم ، هو سبب وجيه للتحاقد والتحاسد ، ومدعاة أن ينشغل الفارغ بملاحقة من حوله .
أن تُدرّب القلب ، كما العقل ، كما البدن ، أن يكون عصيّاً على الاستفزاز والإيذاء ، عصياً على تَقبّل الحقد والكراهية ، محافظاً على صفائيته ، فذلك معناه أن نكون ذا جاهزية عالية لتقبل الإلهام .
-الإلهام لا يحرّم الحلال ، ولا يحلل الحرام ، هو ومضة إشراق تلمع في النفس لتعبّر عن كلمة موحية تنضح بالحكمة ، وتتشح بالجمال ، وتحصد القبول ، حتى يقول سامعها :
عبرت عما في نفسي ، وكأنما أنا الذي قلتها ؛إنها كلمة النجاح التي يدعيها آباء كثيرون .
دون أن تعرف السبب قد يحملك الإلهام على شيء ما , كما عمل ذلك الإطفائي الذي شارك في إخماد حريق ، وتم إنقاذ جميع المستهدفين ، وجد نفسه مضطراً بغير إرادته إلى دخول المنزل والنار لا تزال تشتعل ، لينتقل من مكان إلى مكان ، وصولاً إلى غرفة حيث وجد صبياً قد غمره الدخان ، يحاول أن يلوذ بالسرير ، ويرتجف من الرعب والخوف والحيرة ، فأخذه سريعاً ، وبعد دقائق سقط سقف الغرفة .
لن يكون هذا الجندي أبداً شخصاً مريض القلب بالبغضاء ، ولا إنساناً حقوداً ، ولا مادياً أنانياً ، فالشيء من معدنه لا يُستغرب ، كن أنت ذلك الجندي ، وابحث عن الطفل الذي نجاته على يدك بإذن الله ؛ قد تجده على مقربة منك ؛ أو حتى في داخلك يئن .. أعد إليه بسمته !