أثر السنة النبوية في تجديد وتطوير الألفاظ ودلالاتها اللغوية

الوصف: الاستفهام كما يراه البلاغيون أسلوب عقلي يستخدم لإيقاظ الوجدان واستثارة العواطف شوقاً إلى ما بعد الاستفه


صورة القسم 1

الاستفهام كما يراه البلاغيون أسلوب عقلي يستخدم لإيقاظ الوجدان واستثارة العواطف شوقاً إلى ما بعد الاستفهام، لذا يعد من أميز الأساليب وأفضلها في مجال المحاجة والجدل والمناقشات التي تدور بين طرفين أو عدة أطراف، وفي مجال الخطاب الإقناعي كذلك، حيث أن له مميزات هامة وجذابة ولافتة للانتباه وجاذبة للفكر آخذة للعقل شادة للنشاط العقلي.
لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يطرح بعض الأسئلة على أصحابه بهدف تقرير معنى، أو تثبيته لديهم، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قُدم عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ، تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ " قُلْنَا: لَا، وَاللهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا "، هذا الأسلوب شائع كثير في كلام العرب وفي القرآن الكريم، ولكن اللافت للانتباه أن نصوص السنة المطهرة حافلة بظاهرة أخرى عكس هذه الظاهرة، وذلك عندما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم مفردات غريبة على الاستخدام في ذلك الوقت أو يذكر معان جديدة لمفردات مطروقة فيستثير بذلك استفهام السامعين فيتوجهون إليه بالسؤال طالبين تفسير معناها وهذا ما يعرف عند البلاغيين بالاختراع؛ وهو خَلقُ الأديب المعاني التي لم يسبق إليها، وربما سماه بعضهم: سلامة الابتداع أو سلامة الاختراع .

مهدنا بهذه المقدمة لنقول كلمتنا التي أردنا أن نعقد عليها هذه المقالة؛ وهي أن الإسلام مثلما تضمن تطورا وارتقاء بالحياة في مختلف مشاربها وشتى أنحائها وضروبها تضمن كذلك ارتقاء بدلالات اللغة وتطويرا لمفرداتها ويلوح ذلك من خلال خطب النبي صلى الله عليه وسلم وسنته القولية في منحيين اثنين:
المنحى الأول: إثراء مفردات اللغة بكلمات جديدة لم تكن معروفة أو شهيرة من قبل؛ ومن أبرز الأمثلة على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل ويخون الأمين ويؤتمن الخائن ويهلك الوعول وتظهر التحوت، قيل: وما الوعول والتحوت؟ قال: الوعول: وجوه الناس والتحوت: الذين كانوا تحت أقدامهم "، [أخرجه الحاكم (4/590 ، رقم 8644) وقال: حديث رواته كلهم مدنيون ممن لم ينسبوا إلى نوع من الجرح، وابن حبان في صحيحه (15/258 ، رقم 6844)]، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ " قَالَ: " هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ "[مسلم] .

المنحى الثاني: تحرير دلالات معاني بعض المفردات بقصرها على جزئيات مخصوصة من معاني دلالاتها أو بتغيير معانيها؛ ومن أمثلة ذلك حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله عليه السلام قال: " أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا يَمْلِكُ دِرْهَمًا لَهُ، قَالَ: الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي من يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ , وَيَأْتِي قَدْ قَذَفَ هَذَا، وَشَتَمَ عِرْضَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيَقْعُدُ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ " [أخرجه الترمذي، وابن حبان] وعن الزبير بن العوام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ: هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ " أخرجه أحمد.
قال ابن فارس – معللا أسباب هذه الظاهرة وأهم مظاهرها -: كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقرابينهم، فلما جاء الله جل ثناؤه بالإسلام حالت أحوال ونسخت ديانات وأبطلت أمور ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخرى بزيادات زيدت وشرائع شرعت وشرائط شرطت، فعفى الآخرُ الأولَ، فكان مما جاء في الإسلام ذكر المؤمن، والمسلم، والكافر والمنافق؛ وإن العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان، وهو التصديق، ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافًا بها سمي المؤمن بالإطلاق مؤمنًا؛ وكذلك الإسلام والمسلم: إنما عرفت منه إسلام الشيء، ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء؛ وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلا الغطاء والستر؛ فأما المنافق فاسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروه، وكان الأصل من نافقاء اليربوع .

وإضافة إلى ما ذكره ابن فارس هنا من أن الإسلام أحدث ألفاظا ومعاني لم تكن موجودة قبله نجد أن الإسلام والسنة على وجه الخصوص هذبت اللغة وشذبتها فحذفت منها الألفاظ ذات الدلالات السلبية أو تلك التي تكرس معاني العنصرية والتفريق الانتقائي بين بني البشر؛ من ذلك: نهيه صلى الله عليه وسلم أن يقول الرجل: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقِسَتْ نفسي [رواه البخاري، ومسلم]، مع أن خبثت ولقست معناهما واحد - أي: ضعفت نفسي وساء خُلقها - لكن كره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ الخبث؛ لما فيه من القُبح والشناعة، وأرشدنا إلى استعمال الحسن، وهجران القبيح، وإبدال اللفظ المكروه بأحسن منه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يقولن أحدكم لمملوكه: عبدي، وأمتي، ولكن يقول: فتاي، وفتاتي، ولا يقول المملوك: ربي، وربتي، ولكن يقول: سيدي وسيدتي "، ومثل هذا كثير، وكما أنتجت السنة النبوية المطهرة ألفاظا جديدة للتعبير عن معان جديدة، اقتضاها الشرع والعلم فقد محت من اللغة ألفاظا قديمة، ذهبت بذهاب بعض اعتقادات الجاهلية وعاداتهم منها قولهم: "المرباع" وهو ربع الغنيمة الذي كان يأخذه كبير القوم في الجاهلية و"النشيطة" وهي ما يحوزه الغزاة لأنفسهم من المغنم قبل قسمه، وكقولهم: "أنعم صباحا وأنعم ظلاما"، وتسمية من لم يحج "صرورة" إلى غير ذلك من ألفاظ الجاهلية التي أميتت في الإسلام.
وهكذا نجد أن السنة النبوية المطهرة قد ارتقت بآداب الأمة وأخلاقها وسلوكها إلى قمم عالية من الرقي والسمو وارتقت كذلك بلسانها ولغتها وهذبتها غاية التهذيب فحذفت وأضافت وطورت في الدلالة مواكبة للتطور الحضاري الذي اكتنف شتى مناحي حياة الأمة بظهور الإسلام.