الشعر التعليمي وقصة الألف بيت
الوصف: يروي أهل الأدب أن زياد ابن أبيه مر بالحيرة، فنظر إلى دير هناك، فقال لخادمه: لمن هذا؟ قيل له: هذا دير حُرَقة
يروي أهل الأدب أن زياد ابن أبيه مر بالحيرة، فنظر إلى دير هناك، فقال لخادمه: لمن هذا؟ قيل له: هذا دير حُرَقة بنت النعمان بن المنذر الذي كان ملكا على الحيرة قبل الإسلام، فقال: ميلوا بنا إليه نسمع كلامها، فجاءت إلى وراء الباب فكلمها الخادم فقال لها: كلمي الأمير، فقالت: أأوجز أم أطيل؟ قال: بل أوجزي، قالت: كنا أهل بيت طلعت الشمس علينا وما على الأرض أحد أعز منا، وما غابت تلك الشمس حتى رحمنا عدونا، قال: فأمر لها بأوساق من شعير، فقالت له: أطعمتك يد شبعاء جاعت، ولا أطعمتك يد جوعاء شبعت، فسر زياد بكلامها، وقال لشاعر معه: قيد هذا الكلام ليدرس، فقال :
سل الخير أهل الخير قدماً ولا تسل ... فتىً ذاق طعم الخير منذ قريب
وروى أحمد بن موسى بن حمزة قال: رأيت مروان بن أبي حفصة الشاعر في دار الخلافة وهو شيخ كبير، فسألته عن جرير والفرزدق أيهما أشعر؟ فقال لي: قد سُئلت عنهما في أيام المهدي وعن الأخطل قبل ذلك، فقلت فيهم قولا عقدته في شعر ليثبت، فسألته عنه فأنشدني:
ذهب الفرزدق بالهجاء وإنما حلو القريض ومره لجرير
ولقد هجا فأمضَّ أخطل تغلب وحوى النهى ببيانه المشهور
إن صحت هاتان الروايتان فهما تمثلان البداية الأولى للظاهرة التي عرفت بعد ذلك بالشعر التعليمي؛ أو الأنظام التعليمية، وهي ظاهرة تمددت في الثقافة الإسلامية وفي التعليم التقليدي كافة، بعد أن وصل القائمون عليها لقناعة بدور ملكة الحفظ والتلقين في استيعاب العلوم اللغوية والشرعية، وقد نبعت هذه الفكرة من فكرة أخرى مؤداها أن الكلام المنظوم المقفى يسهل حفظه ويكثر بين النقلة تداوله نقيض الكلام المرسل المنثور فهو لا يعلق بالذهن ولا يبقى مقتضاه في النفوس.
وينبري الأستاذ شوقي ضيف ليوضح الفوارق الفنية بين هذا النوع من نظم الكلام وبين الشعر بمفهومه الأدبي التقليدي حيث يقول: " نحن إذن بإزاء متون تؤلف لا بإزاء أشعار تصاغ و يعبر بها أصحابها عن حاجاتهم الوجدانية أو العقلية، فقد تطور الشعر العربي وأصبحت الأرجوزة منه خاصة تؤلف من أجل حاجة المدرسة اللغوية وما تريده من الشواهد و الأمثال، والأرجوزة الأموية من هذه الناحية تعد أول شعر تعليمي ظهر في اللغة العربية، ولعل في هذا ما يدل علی الم?ان الذی ينبغي أن توضع فيه، أو الذی وضعت فيه فعلاً، فم?انها صحف العلماء من مثل يونس و أبي عمرو بن العلاء، يتعلمونها و يعلمونها الناس، وينقلونها إلی أذهانهم وينقشونها في عقولهم، ليدللوا بها علی مدی علمهم في اللغة ومعرفتهم بألفاظها المستعملة والمهملة".
ثم لما نضج هذا الفن واستوى على سوقه أصبح فنا ذا حدود معرفية معروفة وألفت فيه الأنظام المتعددة في الفنون كلها وحاز إعجاب المعلمين والمتعلمين على حد سواء في مدارس علوم اللسان والشريعة، حتى أصبحت معظم الفنون التي تدرس فيها هي من فصيل الشعر التعليمي لا سواه، ومعظم المؤلفات التي يتأهل بها المتخرجون والتي اعتمدت مراجع أصيلة في التعليم منه، وما زال كثير من المنظومات معتمدا في التدريس حتى يوم الناس هذا رغم مضي أكثر من 700 عام على زمان تأليفها؛ وتتصدر هذه المراجع ألفية ابن مالك في علم النحو وهي أشهر الألفيات على الإطلاق والمستأسرة بلفظ "الألفية" عند الإطلاق دونهن، ثم ألفية الحافظ العراقي في علم مصطلح الحديث، ومنظومة الإمام الشاطبي في علم القراءات والتي تقع 1173 بيتا يتمحض منها لمباحث علم القراءات نحو 1000 بيت، وقد غطت هذه الألفيات علوما شتى منها علم النحو وعلم الصرف، وعلوم الحديث والتفسير وأصول الفقه والسيرة النبوية وعلوم البلاغة وغيرها وحتى تعبير الرؤى نظم فيه زين الدين عمر بن الوردي ألفية طبعت لأول مرة بمطبعة بولاق سنة 1285هـ.
تربعت هذه الألفيات على قمة هرم التخصص الدقيق في فنونها إذ تحلقت حولها شبكة ضخمة من الشروح الموسوعية، ثم إن سنة الله في التطور والنمو شملتها لتظهر موسوعات شعرية أعلى تشتمل على عدة ألوف من الأبيات؛ ومن أعجب ما رأيت في ذلك أن أحد الأدباء ألف منظومة في مائة وعشرين ألف بيت طبعت في عشر مجلدات! إلا أن هذه الألفيات المطولة لم يكتب لها من القبول ما كتب للألفيات البسيطة فلم تجد من حظوة التدارس والشروح ما وجدت تلك .
لم تلبث هذه الموسوعات الشعرية أن أصبحت تمثل عماد الثقافة الإسلامية وعمودها الفقري، خاصة بعد أن ترتب المقرر المدرسي في كل المدارس الإسلامية على ثلاث وحدات رئيسية وهي المتن والشرح والحاشية، حيث يمثل المتن لب الموضوع ويختصر مضامينه الرئيسة في ألَفاظ قليلة بحيث لا يتجاوز في المجموع صفحات قليلة يتأبطها الرجل ويخرج، ويحسن استظهار المتن وحفظه عن ظهر قلب من طرف الأستاذ والتلميذ معا، ثم الشرح وهو الكتاب الذي يتضمن حلحلة ألفاظ المتن وبسط مختصره وإيضاح مجمله، أما الحاشية: فهي شرح الشرح؛ إذ هي تعليقات على الشرح وإضافات عليه تتضمن تفصيلات نادرة غالبا، وفي الأعصار الأخيرة أضيفت وحدت رابعة وهي التقريرات على الحواشي ومن أشهرها تقريرات الأنبابي وهي عبارة عن تعليقات لطيفة على الحواشي، تعتبر حاشية على الحاشية، وهكذا نجد أن المؤلفين – منذ القرن الخامس الهجري – انخرطوا في سلك التأليف في ضمن حدود هذه الدوائر المتداخلة: المتون المستقلة ثم الشروح الموضوعة على المتون ثم الحواشي ثم حواشي الحواشي أو التقريرات، وتقيدوا بمعالجة الكتب المتداولة على هذا النمط، حتى عرف لكل فن من الفنون متون متدرجة حسب حجم المعلومات من مرحلة ابتداء طلب العلم إلى مرحلة الانتهاء أو التخصص الدقيق، وعلى كل متن من هذه المتون وضع كم هائل من الشروح يثري المادة العلمية للكتاب ويزيدها بكمية كبيرة من المعلومات لدرجة ظهرت معها الشروح المتخصصة؛ بمعنى الشروح التي تهتم بالتحليل اللغوي للمتن، فالشروح التي تهتم بالاستدلال الحديثي لأحكام المتن، فالشروح الجامعه وهكذا! بل إن معظم المؤلفين في الثقافة الإسلامية في العصور المتأخرة هم من شراح المتون أو من مؤلفي الحواشي عليها وقل الابتكار والتأليف المستقل فيها جدا، وهذا أمر تسهل ملاحظته من مطالعة أي فهرس من فهارس مؤلفات علماء الإسلام.
هذه الطريقة في التأليف أعطت أهمية متزايدة للمتن ومن ثم ابتكر المؤلفون فكرة معالجة المتن عن طريق النظم كوجه من أوجه العطاء الفكري الذي لقي رواجا كبيرا، وإن كان بعض الكتاب يقسوا كثيرا على هذا المنهج في التأليف وينظر إليه كشكل من أشكال دخول المسلمين مرحلة الانحطاط، ولا يخفى ما في هذا الرأي من التطرف وإن كنا لا ننكر أن المبالغة في استخدام النظم ضيقت عطن العلوم وقيدت فضاءات التعبير ومساحات التفكير فيها، لكن لا ينبغي – مع ذلك - تناسي الجوانب المشرقة لحركة الأنظام الزاهية وقِوام فنها الذي لم يزل مبدعوا الأمة ينسجونه لقرون، لم تفتر فيها همم إبداعهم ولم يتوقف سيرها واستمرارها منذ زمانهم إلى اليوم.