ما بين الإيمان والفكر

الوصف: من الكتب التي صدرت قبل فترة كتاب لا يبحث في أعيان وأفراد الخلل والتخلف الفكري المعاصر في شتى الحقول، ولا ي


صورة القسم 1

من الكتب التي صدرت قبل فترة كتاب لا يبحث في أعيان وأفراد الخلل والتخلف الفكري المعاصر في شتى الحقول، ولا يبحث في قضايا الإيمان والعقيدة، بل يبحث في القناة التي تربط بينهما، وهو وجه بديع جديد من البحث العلمي والفكري، وعنوان هذا الكتاب يوحي فعلاً بموضوع بحثه، وهو (ينبوع الغواية الفكرية) للشيخ عبد الله العجيري، الطبعة الأولى، 1434هـ.
وفي التمهيد الذي صنعه المؤلف للكتاب أتى بنماذج تطبيقية في الدخول في النصوص بدوافع غير نصوصية، أي بمؤثر خارجي، والجميل أن المؤلف وضع التسلسل العقلي الذي يحدث في الذهن لمثل هذه الحالات، وأخذ يتتبعه ويلقي الضوء للقارئ، ويستكشف: كيف يغوص إنسان هذا العصر داخل النصوص بعقل يتنفس خارج هذه النصوص؟

وقد أخذ المؤلف يراقب عامة الغوايات الفكرية في كافة الحقول واستخلص أنها عائدة لحالة مركبة هي –بحسب استنتاج المؤلف- كما يقول (ومن تأمل في كثير من الانحرافات الفكرية في هذا الزمان، فسيجد أنها عائدة إلى مركب: هيمنة النموذج الثقافي الأجنبي، مع ضعف التسليم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم)[ينبوع الغواية الفكرية، ص19].

ابتدأ المؤلف حديثه بفصل تنظيري عن (محركات الأفكار) هو أقرب إلى علم اجتماع المعرفة، وعلم نفس المعرفة، ولكن من زاوية الإنسانيات الإسلامية طبعاً، فدرس المؤلف في هذا الفصل مثلاً: سلطة الأقران، وسلطة الجاه، وسلطة المال، ونحوها في التأثير، وتعديل إحداثيات القناعات الفكرية لدى الأفراد.

ثم انتقل المؤلف إلى تحليل مفهوم (التسليم لله ورسوله) ومعناه وآثاره وبراهين شرعيته. ولم يتوقف المؤلف عند شرح هذا الأصل والأضرار الفكرية الناتجة عن الخلل فيه، بل انتقل إلى حيز المعالجة والدواء، والتي كثيراً ما تقصّر فيها أمثال هذه الدراسات، حيث عرض فصلاً عن (مغذيات التسليم للنص الشرعي).

وفي موضوع عملي تطبيقي، مثل هذا الموضوع الذي يعالجه المؤلف، واضح أنه بحاجة لعروض ميدانية، ولا يكفي معالجة الموضوع بالتعريفات والتقسيمات والشروط والموانع، ونتيجة لإلحاح هذا المطلب اختار المؤلف عرض نموذج (الصحابة) كنموذج للتسليم، فصمم المؤلف فصلاً سيرياً طويلاً يقع في (50) صفحة تقريباً ساق فيه المؤلف من أخبار الصحابة وقصصهم وتراجمهم الإيمانية العذبة ما تسكب عنده عبرات المسلّمين، وكان المؤلف يلقي الضوء على مشهد التسليم في كل حادثة، فاللهم ارض عن ذلك الجيل وزده شرفاً.

يمكن أن نعتبر ما سبق كله هو القسم الأول من الكتاب، وهو قسم تقعيدي، عن (نظرية التسليم الإيماني) وأما القسم الثاني من الكتاب فقد حاول المؤلف فيه أن يستقرئ المخارج والمنافذ التي يقع من خلالها الالتفاف على مبدأ التسليم، وحاوّل أن ينظّر هذه الممارسات ويسبك لها مفاهيم خاصة، وهي عنده: مخرج اختلاف القراءة، ومخرج الاحتجاج بالخلاف، مخرج الاحتجاج بالمقاصد، مخرج الاحتجاج بتغير الفتوى بتغير الزمان، مخرج الاحتجاج بالعقل في مواجهة النقل، مخرج الاحتجاج بتقسيم السنة لتشريعية وغير تشريعية، مخرج الاحتجاج بحق السؤال والاستشكال.

وكل مخرج من هذه المخارج المعدّة للهروب من مبدأ التسليم خصص له المؤلف فصلاً طويلاً مزج فيه بين المادة التأريخية لقصة هذا المخرج، والتحليل العلمي الموضوعي لوجه الخطأ في هذا المخرج.

في تقديري الشخصي أن هذا الكتاب (ينبوع الغواية الفكرية) يناسب جداً أن يكون أحد المراجع الدراسية قبل أي (برنامج تأهيل فكري)، لأنه يصوغ الأساس الضابط ويجذّره في نفس الطالب، ويوقف الطالب على آثاره، ويفضح الطرق الملتوية الكلاسيكية في الالتفاف على مبدأ التسليم.