مفردات الضاد جيئةً وذهاباً
الوصف: من الظواهر اللافتة التي ترتبط بالتفاعل اللغوي بين الحضارات والألسن البشرية،، فتتّصل حيناً بقانون التناف
من الظواهر اللافتة التي ترتبط بالتفاعل اللغوي بين الحضارات والألسن البشرية،، فتتّصل حيناً بقانون التنافس، وحيناً آخر بنكهة التلاقي، قضية الكلمات التي تشهد، في مسارها التاريخي، اقتراضاً مُزدوجاً. وحقيقة هذه الظاهرة الطريفة أن يستعير لسانٌ ما من لسان آخر كلمةً مُعيَّنة، في مرحلة زمنية محدّدة، فيدمجها في نظامه المعجمي، بعد أن يُجري عليها بعض التحويرات الصوتية أو الصرفية أو الدلالية، حتى تصير واحدةً منه.
وبعد مرور فترة من الزمن، تستعير اللغةُ الـمُقرِضة تلك الكلمة نفسها من اللغة المُقترِضة، ولكن في شكلها المُحَوَّر، وليس في تركيبتها الأصلية. يطلق الألسنيون على هذه الظاهرة الاسم المركب "Mots aller-retour" أي: كلمات الذهاب والإياب، بما أنَّ هذه المفردات تذهب نحو لغة، لتشغل فيها حيزاً تواصلياً، ثم تؤوب منها إلى مَوطنها الأصلي، وقد ارتدت لبوساً مختلفاً.
وتعرف العربية المعاصرة، التي تمثل المتن الذي نشتغل عليه، ظاهرة الاقتراض المزدوج هذه. فقد رصدنا بعض كلمات راحت ثم آبت، من الضاد وإليها، مروراً عبر غيرها من لغات العالَم ..
ثم هاهي اليوم تتبوّأ، ضمن استخدامات الصحافة، حيزاً مهماً، بل وتحيل على أكثر المفاهيم رسمية في ثنايا الخطاب العسكري أو السياسي، الأمر الذي يؤكد عمق الأبعاد الثقافية لهذا الضرب من التفاعل المعجمي.
فمن ذلك، مفردة: "تِرسانة" التي اقترضتها العربية بسياقَيْها: الأصلي، الدال على تصنيع الأسلحة، والمجازي الدال على مجموعة القوانين والإجراءات التي تعتمدها دولة ما لتدافع بها عن نفسها ضد تجاوزات الآخرين. وقد يغفل البعض أنَّ الكلمة ما هي إلا تحوير واقتراض لتسمية منحدرة من عربية القرون الوسطى هي: "دار الصناعة"، بعد أن استعارتها اللغات الأوروبية بدورها، (وخاصة الإسبانية والإيطالية ثم الفرنسية)، مع استبدال الدال تاءً للتخفيف، وحذف العين لصعوبة النطق بها.
واللافت أن الضاد باتت تستعمل هذه الكلمة المحوّرة بعد أن أصبحت حاملةً لِمعنىً مجازيٍ، لا شكَّ أن اللغات الأجنبية هي التي أضافته، وليس بالمعنى الأصلي. فلم نعثر على أي سياق تستخدم فيه الكلمة بمعنى: "محل لتصنيع الأسلحة"، ولا "دار تجميعها"، كما كان شأنها زمن الخلافة العباسية والعثمانية وإنما مجموعة الأسلحة في حد ذاتها.
وفي نفس هذا السياق العسكري، نلاحظ تواتر كلمة: "أميرال"، وهو الشكل الفرنسي الذي رشح، أثناء القرون الوسطى، عن عبارة "أمير البحر". إلا أنَّ العربية المعاصرة استعارت الصيغة المعدلة صوتياً، وقد صارت تطلق على رتبة عسكرية ضمن الجيش البحري. ومن اللافت أنَّ الكلمة استُعيدت أيضاً بشكلها الإنكليزي، حيث تستخدم بعض وسائل الإعلام كلمة: "أدميرال".
ومن ذلك، كلمة "مخزن" الذي تحوّلت، في اللسان الفرنسي، إلى مفردة: Magasin، بمعنى: "مَحل تجاري". ثم اقترضتها اللهجة التونسية، وحتى الفصحى المستعملة في تونس، فأعادت تعريبها بكلمة: "مغازة"، وجَمعتها على مَغازات، للدلالة على صنفٍ خاص من المحلات التجارية الفاخرة، في تعارض خلافي، ضمن الجدول المعجمي، مع مفردات: "حانوت"، "مَتجر"، "محل"، لارتباطها جميعاً بتمثلات شعبية، لا توحي بصورة الأناقة والرفاه.
ومن لطائف هذا الترحال المعجمي، جيئةً وذهاباً، كلمة "كحول"، بمعنى: "سائل عديم اللون، له رائحةٌ مُمَيَّزَة، ينتج من تخمر السكر والنَّشاء، وهو روحُ الخمر". وقد استعارتها تقريباً جلُّ لغات القارة الأوروبية، للدلالة على: "المشروبات الروحية، وما يدور في فلكها من الخمور"، بعد أن أجرت عليها تحويلات جوهرية: فهي مشتقة من جذر (كحل)، المرتبط بالسواد، ومنه الكُحل الذي يزيّن به الرجال والنساء العيون، ثم صارت تطلق على عملية التصفية لإنتاج مادة التزيين هذه. واقتصرت اللغات الأجنبية على هذا المظهر، فأطلقتها على ما يُصفَّى من جيد الشراب. ثم عادت العربية المعاصرة واستعملتها بهذا المعنى بعد أن قطعت نسبياً مع مقابلات: "خمر"، "شراب" و"مسكرات"...
ومن الممكن أن نعدد الأمثلة ولكن الرهان فيها واحدٌ: رغبة العربية المعاصرة في سد كل الثغرات المعجمية الطارئة، حتى لا يبقى المعنى المستحدث، الذي صنع عبر تحوير الكلمة العربية الأصلية وتعديلها، غائبًا من المتن الدلالي الراهن. فلا يمكن مثلا أن لا نوجد مقابلاً للمعنى الدقيق الذي انضاف إلى "ترسانة"، بوصفها مجموعة من القوانين والإجراءات دون اللجوء إلى الكلمة الفرنسية Arsenal.
كما تؤكد هذه الأمثلة أنَّ عمليات الاقتراض المعجمي، في هذا الطور من تاريخ الضاد، لم تُنظَّم بعدُ بشكل مؤسساتي، ولم توضع له قوانين صارمة، تسهر عليها المجامع اللغوية، وتكفل إجراءه بنسقٍ أكثر انتظاماً وصرامة، وإلا فما الفائدة من استرجاع كلماتٍ من الضفاف الأخرى بعد أن حوَّرتها، صوتياً ودلاليًاً، حتى كاد يغيب أصلها العربي؟
فلا تكمن القضية في وضعية الاحتياج الذي تحس به اللغة المقترِضة، وإنما في وضعية الفوضى التوليدية التي ما تزال تَصِم مسارات التفاعل بين الضاد وغيرها من ألسن العالم. وربما على التحليل اللساني أن يعرّي الرهانات الحضارية والسياسية التي تتخفى وراء مثل هذه التحرّكات.
وأما في ما يتعلق بالبحث النظري المحض، فلا يزال المنظرون يتكئون على مقولة الشيخ عبد الله العلايلي (1914-1996): "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب"، في حين أن كلمات الذهاب والإياب هي من كلام العرب، وقد امتزج بغيره من المؤثرات والمتغيرات.