حملة الأطفال الصليبية

الوصف: طوال قرون عدة من الزمن، غذت مخيلات الحروب الصليبية أذهان الأوروبيين، وطغت حكاياتها على كثير من نتاجاتهم


صورة القسم 1

طوال قرون عدة من الزمن، غذت مخيلات الحروب الصليبية أذهان الأوروبيين، وطغت حكاياتها على كثير من نتاجاتهم الأدبية والفنية، بل حتى في زمننا هذا، لا يمكننا ابداً ان ننسى كيف أن الرئيس الأميركي السابق "جورج دبليو بوش" آثر أن يستخدم كلمة (حملة صليبية) حين شاء أن يهدد ويتوعد مقترفي العمليات الإرهابية في نيويورك قبل أكثر من عقد من الزمان بالرد عليهم وعلى جرائمهم. وفي الأحوال كافة، من الواضح اليوم أن كل استخدام لتعبير (حملة صليبية) يثير جدلاً كبيراً.

أما بالنسبة إلى البعد التاريخي، فإن أوروبا الغربية ظلت حاملة من زمن الحملات الصليبية مجموعة من الأفكار والأحكام التي أضحت مسبقة مع مرور الزمن، وظلت تعامل تلك الأحداث التاريخية الجسيمة انطلاقاً من صورة أحادية وضعتها لها، حتى قيّض لتلك الحملات من يتحدث عنها، بصورة مختلفة، ومن يفسّر قيامها تفسيرات ليست بالضرورة ميتافيزيقية ودينية.
ونلاحظ في شكل خاص أن منذ النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ يحدث تبدل راديكالي في النظرة إلى تلك الحروب، تجلى في قبول نظرة (الآخر)، أي العربي والمسلم، وعدم الاكتفاء بالتفسير الغربي.

وفي هذا الإطار لعبت دوراً كبيراً، أعمال مثل كتاب "فرانشيسكو غابريللي" عن المؤرخين العرب والحروب الصليبية، والآخر الذي وضعه الكاتب اللبناني "أمين معلوف" حول الموضوع نفسه، وتحديداً على نسق كتاب غابريللي.
ولكن علينا أن نتنبه هنا إلى أن كثيراً من الأدباء الغربيين، من فرنسيين وغير فرنسيين، لم ينتظروا ذلك كله حتى يلقوا على بعض جوانب الحملات الصليبية نظرات مختلفة، ناقدة غالباً، ساخرة في بعض الأحيان. ومن هؤلاء الشاعر والناقد "مارسيل شووب"، الذي أراد أن يرسم بعض غرائب تلك الحملات رسماً ناقداً ساخراً، على عادته، اختار تينك الحملتين اللتين اشتهرتا باسم "صليبيات الأطفال" ليقدّم عنها عملاً شعرياً أسطوري السمات، أثار حين صدوره جدلاً كبيراً.

كتب مارسيل شووب عمله بعنوان: "حملة الأطفال الصليبية" في العام 1895.. وحاكاه فيه بعد ثلاثين عاماً، كاتب فرنسي آخر هو "هنري بوردو". ولكن فيما أتى نص مارسيل شووب غريباً سوريالياً ساخراً، جاء نص هنري بوردو أكثر واقعية ودرامية بكثير. وكان الفارق بين الكاتبين، يمثل الفارق بين عقليتين، ونظرتين الى تلك الحروب، وما جرّته على البشرية من ويلات في حينه.
انطلق شووب في نصه، من الحملتين الحقيقيتين اللتين حاول القيام بهما رهبان ومحرضون استخدموا فيهما أعداداً كبيرة من أطفال مسيحيين أوروبيين خلال القرن الثالث عشر.
ومن المعروف تاريخياً أن أولى الحملتين انطلقت من فرنسا، لتنتهي بكارثة عند مرسيليا، فيما يذكر لنا التاريخ أن الحملة الثانية انطلقت من بلاد الفلاندر، وألمانيا لتعبر جبال الألب، وتركب السفن من مدينة جنوى الإيطالية منطلقة صوب الشرق.

والأطفال الذين كانوا يُسألون في ذلك الزمن حين يلتقيهم الناس وهم في الطريق: الى أين هم ذاهبون بثياب الحجيج والصلبان المعلقة من حول رقابهم؟ كانوا يقولون لمن يسألهم بثقة بالنفس وإيمان كبيرين: "إلى أورشليم لكي نحرر الديار المقدسة". ولكن التاريخ يقول لنا إنهم لم يصلوا إلى أورشليم أبداً.
وعدم الوصول إلى "أورشليم" هذا هو بالتحديد الموضوع الذي أراد شووب أن يعبر عنه: إخفاق الحملتين، على رغم كل الحماسة وكل الوعود. وهكذا نراه يبدأ نصه بأصوات غامضة غيبية تنادي أطفال واحدة من مدن الفلاندر، في العام 1212، بأن يفيقوا ويتوجهوا إلى الديار المقدسة.
وهكذا يفيق الأطفال ويتجمعون آتين من كل حدب وصوب متعرفين إلى بعضهم بعضاً، إذ ارتدى كل واحد منهم مسوح الرهبان الحجيج وتقلد صليبه وغطى نظراته بإيمان عميق.

وفيما يركض الأهل حزانى يائسين خلف أطفالهم محاولين ثنيهم عما يريدون فعله، لا يأبه الأطفال بتضرعات الأهل، يحمّسهم على ذلك "رهبان قساة" - وفق وصف شووب البديع - لا يهزهم نحيب هؤلاء الأهل، ولا تردعهم أية رحمة أو شفقة عن إيراد الطفولة موارد هلاك محتم. وهكذا يتجمع الأطفال ومن بينهم ضرير هو ذاك الفتى آلان الذي تقوده الصبية آليس متفرغة له.
وبعد التجمع ينطلق الأطفال في حملتهم، قاطعين جبالاً وودياناً، أحياناً وسط البرد المريع، وأحياناً تحت شمس ربيعية جزلة. ولكن إذ يطول الطريق ويبدأ التعب سيطرته على الصغار، يبدأ شيء من الشك، في صواب ما يفعلون، يتسلل إلى قلوبهم. وهذا الشك يعبّر عن نفسه عبر حوارات وبعض تحريف للأغاني الحماسية، ولا سيما في تبادل للعواطف والعبارات بين آلان الضرير ورفيقته آليس. وفجأة تتحول أغنيات الأطفال الحماسية الى أناشيد تبريرية من الواضح أن مهمتها بعث نوع من الطمأنينة الكاذبة في أذهان الأطفال.

وأخيراً، تصل قوافل الصغار إلى البحر بعد تعب ويتجمعون من جديد على سواحل جنوى، على البحر الأبيض المتوسط: هنا يكون لسان حالهم إنهم باتوا الآن حقاً في بداية الطريق الحقيقية، ويعود إليهم الأمل والحماسة... ولكن ليس لفترة طويلة. إذ إنهم ما إن يصعدوا إلى السفن وتبدأ هذه بمخر مياه البحر نحو الهدف المنشود، حتى تهب عاصفة عاتية لا يعود لأحد أمامها حول أو طول. وبعد صراع هائل مع الأمواج تغرق سفينتان، فيما تصبح بقية سفن الحملة كلها عرضة للغرق.
وهكذا يشعر المسؤولون أمام تلك الكارثة أنه لم يعد من المهم الآن سوى إنقاذ الأطفال، حتى ولو تمت التضحية بحلم الديار المقدسة....
منذ كتب "مارسيل شووب" قطعته الشعرية/ الأسطورية هذه، ثار في وجهه سجال عنيف، خصوصاً أمام برودة وصفه للأحداث، وموضوعية تعامله التفسيري معها، وهو تعامل شاءه الكاتب أن يكون إنسانياً، ناقداً، يتساءل في نهاية الأمر حول جدوى الحروب، وحول حقيقة أبعادها الدينية - مذكّراً قراءه في شكل موارب بجان دارك والأصوات التي دعتها إلى الحرب ثم الفشل الذي كان لتدخلها، والثمن الغالي الذي دفعته -، هذه البرودة تتبدى في لحظات كثيرة، أقرب إلى السخرية من كل ما يحدث.
هذا بالنسبة الى النصّ الأدبي الشعري، أما بالنسبة إلى الأوراتوريو الغنائي الذي كتب ولُحّن انطلاقاً منه لاحقاً، فإنه عاد وأصلح الأمور بعض الشيء، إذ أن النقل الموسيقي للعمل - كما أشرنا - جرّده من حس السخرية ليدخله في شيء من الميتافيزيقية الروحية التي انتهى بها الأمر إلى أن تُرضي المدافعين عن الحملات الصليبية.

وهكذا شهد شاهد من أهل الحضارة الغربية ،على تاريخ مظلم لهذه الحضارة ، تاريخ استعمار وقتل وتشريد للبشرية، إرضاء لنزوات الغربي التي لا تنتهي.