الموت في نظر الأدباء والحكماء

الوصف: من قديم والإنسان أمام الموت مرتاع فَزِع، ومع أن الموت هو النتيجة الحتمية الطبيعية للحياة لم يتقدم الإنسا


صورة القسم 1

من قديم والإنسان أمام الموت مرتاع فَزِع، ومع أن الموت هو النتيجة الحتمية الطبيعية للحياة لم يتقدم الإنسان أي خطوة في سبيل تهوين أمره وتلطيف وقعه.
ومع أنا إذا نظرنا إليه من الناحية الاجتماعية لا من الناحية الفردية وجدناه أمراً لابد منه لحياة الجيل الحاضر وجيل المستقبل؛ إذ الأرض يستحيل البقاء عليها والعيش فيها، إذا لم يكن الموت - مع كل ذلك - فهذا التفكير المعقول لم يخفف الشعور بهول الموت، وعدَّه المصيبة الكبرى.
أمامه تنهار كل القيم؛ فالمال، والجاه، والمنصب، واللذائذ تتضاءل كلها أمامه، فَيَسْتَهْوِنُها واجدُها، ويستقلُّ شأنَها فاقدُها.
وفي كل يوم عبر، فهو لا يفوته شاب لشبابه، ولا عظيم لعظمته، ولا أب لِحُنُوِّه، ولا صحيح لصحته سواء عنده كل شيء.

وكلما كان الميت أعظم كانت العبرة به أعظم؛ ومن أجل ذلك وقف الناس وقفة اتعاظ بموت الجبابرة أمثال الإسكندر، ودارا، وتيمورلنك، ونيرون، ونابليون؛ إذ رأوا أن جبروتهم انهار أمام الموت كما ينهار السائل الفقير، والمسكين الحقير، فإذا الدنيا كلها، والجبروت كله، والعظمة كلها فقاقيع هواء زال كلمح البصر، وكأن الحياة لعبة في الهواء، أو كتابة على الماء.

وفي الأدب العربي قصة طريفة بُعْثِرَتْ فجمعناها، ورويت روايات مختلفة فاخترنا خيرها، وهي أن الإسكندر لما مات اجتمع حول جثته جمع من الفلاسفة من تلاميذ أرسطو، فقال عظيمهم: ليقل كل منكم قولاً يكون للخاصة معزِّياً، وللعامة واعظاً.
فقام أحدهم وضرب بيده على التابوت وقال: أيها المنطيق ما أخرسك، أيها العزيز ما أذلك، أيها القانص كيف وقعْت موقع الصيد في الشرَك؟ مَن هذا الذي يقنصك؟
وقام ثان فقال: هذا القوي الذي أصبح اليوم ضعيفاً، والعزيز الذي أصبح اليوم ذليلاً.

وقال ثالث: قد كانت سيوفك لا تجف، ونقمتك لا تُؤمَن، ومدائنك لا ترام، وعطاياك لا تبرح، وضياؤك لا يخبو،فأصبح ضوؤك قد خمد، ونقمتك لا تخشى، وعطاياك لا تُرجى، وسيوفك لا تُنْتَضى، ومدائنك لا تُمنع.
وقال رابع: هذا الذي كان للملوك قاهراً، أصبح اليوم للسوقة مقهوراً.
وقال خامس: قد كان صوتك مرهوباً، وكان مُلْكُك غالباً، فأصبح الصوت قد انقطع، والملك قد اتضع.
وقال سادس: كنتَ كحلمِ نائمٍ قد انقضى، أو كظل غمام انجلى.
وقال سابع: لئن كنتَ أمس لا يأمنك أحد، لقد أصبحت اليوم وما يخافك أحد.
وقال ثامن: هذه الدنيا الطويلة العريضة طُويت في ذراعين.
وقال تاسع: كفى للعامة أسوة بموت الملوك، وكفى الملوك عظة بموت العامة.
وقال عاشر: قد حرَّكَنَا الإسكندر بسكونه، وأنطقنا بصمته.
وهذه القصة إن شك فيها المؤرخ لا يشك في قيمتها الأديب والمعتبر.

عبرة القصة:
وفشت هذه القصة، وهذه الأقوال في أوساط الفلاسفة من المسلمين، فلما مات عضد الدولة البُوَيْهي، وكان ما كان، ضخامةَ مُلْكٍ، وعزةَ جاهٍ، وهو الذي لُقب بشاهنشاه، ولي المملكة وقد استولى الخراب عليها فعمَّرها، ونظَّم المخبرين، فعنده أخبار العالم الإسلامي في سرعة البرق، ورتَّب الجواسيس حتى خاف الرجل امرأته، والسيد خادمه، وهو شديد لا يلين، وقاسٍ لا يرحم، ما أكثر من قَتَل وشرَّد لسبب يَسْتَوجِب ولغير سبب، حتى رووا عنه أنه أولع بجارية شغلته بجمالها وحسن حديثها عن بعض شؤون الملك، فأغرقها حتى لا يعود لمثلها، وزهت له الدنيا فاغتر بها، ووصف نفسه في شعره بأنه - مالك الأملاك، غلاَّب القَدَر- (عياذا بالله) وقصده المتنبي فرأى ملكاً كبيراً، ونعيماً عظيماً، .. فصرخ:
وقد رأيتُ الملوك قاطبة وسِرْتُ حتى رأيتُ مولاها
ومَن مناياهم براحته يأمُـرُها فيـهـم وينهـاها
إلى أن يقول:
وإن له شرقَها ومغربها ونفسُـه تستقـل دنياها
تجمعت في فؤاده همم ملء فؤاد الزمان إحداها

وكان في ملكه كِرْمان، وفارس، وعمان، والعراق، والموصل، وديار بكر، وحرَّان، ومنبج، خضعت له، وخافت منه، واستكانت له، وفزع منه الصغير والكبير، ثم ماذا؟ أصابه المرض وهو في السابعة والأربعين، فأذل نفسه وأحقر شأنه، واستُدعي له مهرة الأطباء، فعجزُوا عجزه، وذلُّوا ذلَّه، فأخذ يقول الشعر ينعى نفسه:
قتلت صناديد الرجال فلم أدع عدواً ولم أُمهـل عـلى ظِـنَّـةٍ خَـلْـقا
وأخليت دُورَ المُلْك من كل نازلٍ فشرَّدتهم غرباً وبـدَّدتـهـم شــرقـــا
فلما بلغت النجمَ عزَّاً ورفعةً وصارت ركاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي فـها أنذا في حجرتي عـاطـلاً مُـلْـقى

ثم جعل يقول: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، إلى أن مات.

أثر المنظر على عقول الناس:
استرعى هذا المنظر عقول الناس، بناء شامخ سقط في لحظة، وقوة هائلة تحطمت في لمحة، واعتداد بالنفس ذهب مع الريح، و عجز من زعم أنه غلاَّب القَدَر.
وإذ ذاك ذكر فلاسفة بغداد القصة التي رويت لهم عن موت الإسكندر، وما قاله تلاميذ أرسطو في العظة به.
فاجتمع طائفة من الحكماء يوم مات عضد الدولة، واقُترح عليهم أن يقولوا فيه كما قال تلاميذ أرسطو في الإسكندر.

وبدأ أبو سليمان فقال: لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها، وأعطاها فوق قيمتها، وحسبك أنه طلب الربح فيها فخسر روحه.
وقال ثان: من استيقظ للدنيا فهذا نومه، ومن حلم بها فهذا انتباهه.
وقال ثالث: ما رأيت غافلاً في غفلته، ولا عاقلاً في عقله مثله، لقد كان ينقض جانباً وهو يظن أنه مبرِم، ويغرم وهو يظن أنه غانم.
وقال رابع: أما إنه لو كان معتبراً في حياته لما كان عبرة في مماته.
وقال خامس: الصاعد في درجاتها إلى سفال، والنازل من درجاتها إلى معال.
وقال سادس: من جد للدنيا هزلت به، ومن هزل راغباً عنها جدت له، انظر إليه كيف انتهى أمره، ووضع شأنه، وإني لأظن أنَّ فلاناً الفقير الزاهد الذي مات بالأمس أعز ظهيراً من هذا الذي ترك الدنيا شاغرة، ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة.
وقال سابع: إن ماءً أطفأ هذه النار لعظيم، وإن ريحاً زعزعت هذا الركن لعصوف.
وقال ثامن: كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك، وهلا اتخذت دونه جُنَّة تقيك؟ ماذا صنعت بأموالك والعبيد، ورجالك والجنود؟ من أين أُتيت وكنت قوياً صارماً؟ إن فيك لعبرة للمعتبرين، وآية للمستبصرين.

وعلَّق ظريف على الموقفين فقال: إن الفرق بين الكلامين كالفرق بين الملِكَين.
إن كان هذا ففيم غرور المعتز، وطمع الطامع، وسطوة الظالم، وطغيان المستبد، وخيلاء المعجب؟
ورحم الله الحسن البصري إذ يقول: ما أكثر المعتبَرَ وأقل المعتبِر.