الشحاذون الجدد طرائق وطرائف

الوصف: قيل والعهدة على الراوي: إن مركبًا اشتدت به الريح في يوم عاصف، فجعلت تتقاذفه الأمواج، وهو يتمايل ذات اليمي


صورة القسم 1

قيل والعهدة على الراوي: إن مركبًا اشتدت به الريح في يوم عاصف، فجعلت تتقاذفه الأمواج، وهو يتمايل ذات اليمين وذات الشمال، ويغترف من ماء اللج ما يثقله، حتى لم يشك السفر في أنه لا محالة غارق بهم، فراحوا يعجون بالدعاء إلى الله تعالى، ويسألونه النجاة من هذا الهلاك، وكان أشدهم اجتهادًا في الدعاء والضراعة والابتهال رجل يقول في ابتهاله: يا رب، ماذا عسى لو هلكت أن يكون مصير زوجتي وأولادي السبعة، وليس فيهم من يتكسب، ولا من بلغ سن التكسب؟ ثم ماذا عسى أن يكون مصير أختي المطلقة وولديها الصغيرين؟ ثم من ذا الذي يعول أختي الأرملة وأولادها الأربعة وأنا أحمل الجميع؛ لأنه ليس فيهم من يستطيع أن يعود على الشمل ولو بدرهم واحد؟ أنا لا تعنيني الحياة، ولكن كيف الحيلة بعد موتي في كل هؤلاء؟.

وما برح يرفع الصوت بهذه الضراعات حتى كاد يشغل سائر السفر بشأنه عن شأنهم، وحتى كادت تذوب كبودهم من الرقة لحال عياله، وسائر من يعول من آله، ويشاء الله أن تهدأ الريح ويسكن الموج، ويسكن وجه الماء وتبلغ السفينة الشاطئ بسلام.
وما كادت قدم هذا الرجل تطأ الأرض حتى صاح: "والله العظيم، ما كانت لي قط زوجة ولا ولد، ولا لي أخت أرملة ولا مطلقة، وما علت أحدًا في الحياة غير نفسي"؛ وخيبة الله على الجاهل الأحمق المأفون!

ولقد سبق لي من بضع سنين أن أجريت كلامًا في الراديو في الشحاذين التقليديين، واستنظرت السامعين الحديث في الشحاذين المحدثين "المودرن".
وإذا كانت عدة هؤلاء تزداد في هذه الأيام بنسبة هائلة، وأساليبهم في الكذبة تتنوع وتتلون، فقد حق علينا أن نلم بحديثهم في مقال.
على أننا قبل أن ندخل في هذا، نرى من الخير أيضًا أن نطوف ببعض القول في الشحاذين التقليديين، وقد كادوا ينقرضون ويخلو وجه المدن الكبيرة منهم، حتى يخلو على الناشئ على وجه خاص صورتين واضحتين للعهدين، يستطيع بهما المقارنة بين الفنين: القديم والحديث، وليقدروا مبلغ التطور العظيم في أسلوب الشحاذة، هذا التطور الذي أصبح يكافئ بحق سائر نهضاتنا العظام!

كان الشحاذون، ولا زالت منهم بقية قليلة يعتمدون في المسألة على إلحاح الجوع، والعجز عن السعي والعود على الشمل، بألوان من الأمراض والأسقام، والنقص في الخلقة والآفات المقعدة للمرء عن السعي والحركة في أسباب الرزق، فكان دعاؤهم في الطرق، وعلى أبواب الأضرحة وفي الجبانات في الجمع والمواسم من نحو: اللقم تمنع النقم! هنيئًا لك يا فاعل الخير! عشا الغلابة عليك يا رب! سيد كريم أو ست كريمة تحن على العاجز يا محسنين! .

ولا جدال في أن دعوى الجوع والعجز عن الرفق بالبدن في سبيل الرزق، تحتاج إلى اصطناع ما يثبتها من بلي الثوب وبلي الجسم، وقد تُعصب العينان لو شك ذهاب البصر بالرمد، وقد يظهر النقص في الخلقة بفقد الذراع الأيمن، أو فقد أحد الساقين أو فقدهما جميعًا، فلا يسع الشحاذ المسكين إلا أن يزحف على الأرض زحفًا، فإذا لم يكن المولى جلت قدرته قد مَنَّ عليه بهذه النعمة أو تلك.
وقد حدثني بعضهم عن رجل أخصائي كان مثواه في إحدى عواصم دولنا العربية، وكانوا يدعونه الربيط، فإذا كتب لك، أو كتب عليك أن تجوز بدكانه في الصباح الباكر رأيت خلفًا مزدحمين ببابه، هذا يطلبه ليربط ساقه ربط العرج، أو ساقيه ربط الكساح، وهذا ليثني ذراعه حتى لا يشك رائيه في أنه قد فقد الذراع، وهذا ليشد له بعض جسده ويرخي منه بعضًا، فهو ومن ضربه الفالج وأبطل نصفه بمنظر سواء وهكذا!

وأنت خبير بأنه إذا كانت الأسقام والعلل والنقص الطارئ على الخلقة هي رأس مال هؤلاء القوم، ووسيلتهم إلى الرزق، بل إلى الجمع والادخار وإحراز الغنى، وإدراك اليسار قدرت مبلغ تحاسدهم على العلل والآفات، حتى لتسمع من بعضهم إذا غبط آخر: "اللي بلاه يبلينا يا سيدي!" وتسمع من غيره وقد أخذته الموجدة على غيره: "بيتكبر على إيه، هو ما حدش انشل إلا هوه؟ آدر ربنا يحرمه من الشلل من طرفة عين، ويشمت فيه العدو".

هذا بالاختصار كان سبيل الشحاذين القدامى أو الشحاذين التقليديين، وتلك كانت وسيلتهم في فنهم وسعيهم في الرزق ولجمع المال، أما الآن وفي عصر النهضة، فمن النادر جدًّا أن تسمع مثل: اللقم تمنع النقم … إلخ. أو تسمع رغيف عيش وصحن طبيخ! أو تسمع: عشا العاجز عليك يا رب … ومن النادر جدًّا أن تسمع مثل هذا أو ذلك، فإذا قدر لك أن تسمعه ففي الأزقة والدروب التي لا تسلكها عين البوليس.

وإذا كان شحاذو الأمس لا يظهرون إلا في بلي الثوب وبلي الجسم، فشحاذو اليوم لا يظهرون إلا في نضارة الشباب، وبضاضة الأهاب، وأناقة الثياب قد انحدرت النعمة عنهم، أو أنهم ما برحوا يتقلبون في النعمة، ولكن كرثهم من الطوارئ العاجلة ما أحوجهم إلى المعونة العاجلة، وأمثال هؤلاء لا يسألون رغيفًا ولا "صحن طبيخ" حاشا لله! إنما يسألون نقودًا، ونقودًا قد تكون في بعض الأحيان كثيرة.
وماذا يغني صحن الطبيخ من مات عنده ميت لا يجد ما يجهزه به ويحمله إلى مرقده في مقبرة؟ وماذا ينفع هذا أو هذا في إكمال قسط المدرسة وقد حل، وأوشكت إدارتها أن تطرد الولد طردًا، وتدعه عن طلب العلم دعًّا؟ ثم ماذا يفيد هذا أو هذا في معونة مدرسة تعلم اليتامى وأبناء الفقراء بالمجان، ما تقتضيهم على التعليم والطعام قرشًا؟ وهكذا!

وهؤلاء لا يلقون الناس بالضرورة في الثوب الخلق، ولا بالوجه الشائه ولا بالجلد المتقيح، بل إنه كلما عظمت أناقتهم، وجمل سمتهم ونضر خلقهم، كانوا أدنى إلى الصدق في المسألة وأدر لعطف المسئول، ولا يذهب عنك أنه قد ورد في الأثر: (أعطوا السائل ولو جاء على فرس).
وهؤلاء كذلك لا يتسكعون في الأزقة، ولا يزحفون في الدروب؛ لأن سكانها لا يجودون إلا باللقمة، ولا يخرجون للكشكول السائل إلا فضالة الطعام، وذلك عهد قد مضى — بحمد الله — وانقضى بل لا تراهم إلا منخرطين في أعلى الشوارع وأحفلها بعلية الناس.

وكثرة هؤلاء لا يتعبون أنفسهم في طلب الزبائن والاختلاف إليهم في دورهم، بل إنهم ليرتصدون لهم في المقاهي أو على لقم الطريق، حتى إذا جاز الزبون بهم دعوه كما تدعو بائع التفاح، أو الخيار، أو غيرهم من هؤلاء الباعة المترفقين بأبدانهم السريحة سواء بسواء!
ومن هؤلاء من يعترضك في الطريق، ولا يستحي من أن يقول لك: "والله أنت ابن حلال لقد قضيت أكثر من ثلاثة أشهر في البحث عنك، وها أنا ذا قد أصبتك والحمد لله"! ثم يفضي إليك بالمسألة، وثلاثة أشهر وهو يبحث عنك ولا يصيبك، حتى أذنت المصادفة وحدها باللقاء! ولا والله ما زاد على أن جعلك متشردًا ليس لك عمل ولا لك محل إقامة، أو أنك فار من وجه العدالة، والعياذ بالله!

ولقد يقع أن يعتريك أحد هؤلاء الشحاذين "المودرن" في دارك، أو في مثوى عملك أو في المقهى، إذا كنت ممن يثوون إلى المقاهي، وقد بسط يده وفيها حفنة من الدراهم، ويباديك بأن ما في يده هو أقصى ما في جهده من قسط المدرسة، وأنت أبر وأكرم من أن تدع الولد يطرد من المدرسة ويحرم من نعمة العلم في شيء يسير لا يضرك ولا يتحيف مما أفاء الله عليك من النعم!
ومن أظرف ما سمعت، والعهدة على الراوي، أن هذا الشحاذ الغيران على تعليم ولده وتثقيفه قد لا تكون في يده هذه المصيدة، وأعني بها المائة والخمسين قرشًا، والمائة والسبعين التي تنقص باقي القسط فيستعيرها من بعض رصفائه على أن يرده إلى أصحابه بعد قضاء الحاجة منه!

وقد حدثني من لا أشك في خبره أنه كان ذات يوم ساعيًا مجدًّا في الطريق، فلمحه رجل من هؤلاء يعرفه فركض خلفه حتى أدركه، وحلف له بكل محرجة من الإيمان أنه قد مضى عليه وزوجه وأولاده الخمسة ستة أيام ما ذاق أحد منهم لقمة واحدة، فقطب صاحبي وجهه واصطنع الجد، وقال في حدة وعنف: اسمع يا هذا! إنني إذا أطعمتك وأهلك وولدك أكون أكبر مجرم في العالم.
فقال له الرجل: وكيف ذلك؟ قال: أنت تعلم أنني لن أعولكم أبد الدهر، وكل ما يسعني هو أن أمدكم بثمن وجبة أو وجبتين، قال الرجل: ولسنا نطمع في أكثر من هذا، فقال صاحبي: أبعد أن عانيتم في طريق الموت جوعًا ما عانيتم، حتى لم يبقَ بينكم وبينه إلا ساعات معدودة تبلغكم نهايتها الراحة الكبرى من هذه الحياة الأليمة، أردكم إلى الحياة ثانيًا لتعانوا في طريق الموت ما عانيتم، وتعاودوا هذه الآلام التي جازت بكم؟ أفصدقت أنني إن فعلت أكون أكبر مجرم في العالم!

ومن أعجب ما يذكر في هذا الباب أنه في أحد العشايا من الأسبوع الماضي، قد اعترضني في بعض الطريق رجل لا يخلو سمته من تجمل، وثيابه من تأنق وحلف لي بكل مؤثمة من الإيمان، أنه قد احتسب ولده في الصباح الباكر ولا يزال مسجى في البيت؛ لأنه لم يجد نفقة تجهيزه ودفنه، وأسرع تأكيدًا لقوله، فدس في يدي ورقة فإذا هي ترخيص بدفن "فلان" ولم يرعني إلا أن تاريخ هذا الترخيص يرجع إلى أكثر من ستة أشهر.
حقًّا لقد راعني وهالني، وكاد يذيب كبدي، أن تظل جثة هذا الغلام المسكين رهن البيت، هذه المدة الطويلة، ومن يدري فلعلها تظل كذلك مدة أطول؟ وانطلقت لوجهي وأنا ألعن بلساني وقلبي قسوة هذا الإنسان، حتى على الأموات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وبعد، فإنني الآن أستطيع بدوري أن أحلف في غير إثم ولا حرج على أنه ما كان ولد في المدرسة حل القسط من نفقات تعليمه، ولا قامت مدرسة تعلم اليتامى وأبناء الفقراء بالمجان أو بغير المجان، ولا كان هناك زوجة ولا خمسة أولاد جياع أو غير جياع، ولا ولد في الدار ميت ولا من الأحياء … إلخ. إن هي إلا شهوة التبطل، والعيش، وإصابة اللذائذ، وإدخال المسرح على النفس بفنون المكيفات، وكل أولئك على حساب العاملين، وقد يكون فيهم العليل المكدود، وقد يكون فيهم من يعييه ويرهقه السعي على الأهل والولد، وقد يكون فيهم من يجهده المعروف بصلة المحتاج من ذوي القربى أو المسكين حقًّا أو اليتيم المحروم!