لغتنا الجميلة
الوصف: إن من تتبع قيام الحضارات، وراقبَ تعاقُبَ الدولِ والمجتمعات، يجد أن أحد أسباب قيامها ونشأ
إن من تتبع قيام الحضارات، وراقبَ تعاقُبَ الدولِ والمجتمعات، يجد أن أحد أسباب قيامها ونشأتها، وأهم أصولها وثوابتها، لسانَها ولغتَها.. فاللغة في كل حضارة تعد ركنا ركينا، وقطبا متينا.
ونحن المسلمين أبناءَ هذه الأمة الإسلامية مَنَّ الله علينا بأفصح لسان، وأبلغِ بيان، وأفضلِ لغة مرت عبرَ الأزمان، ألا وهي اللغة العربية لغة القرآن.
لغة إذا وقعت على أكبـادنا .. .. كانت لنا بردًا على الأكباد
وتظل رابطـــة تؤلف بيننا .. .. فهي الرجاء لناطق بالضاد
ليس مثل العربية
ليس على وجه الأرض لغة تشبه لغتنا العربية أو تدانيها في جمالها، ولا في رونقها، ولا في حُسنِ تراكيبِها وجَذالةِ ألفاظِها، وحلاوةِ تعابيرِها، ولا في سعةِ معانيها ومتانةِ مبانيها. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "اللغة العربية أفصح اللغات، وأجلاها، وأحلاها، وأعلاها،، وأبينها، وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل الله أشرف الكتب، بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان، فكَمُل من كلّ الوجوه"(تفسير ابن كثير:3/121).
وما كان ليسع كلام الله سبحانه في قرآنه سواها، ولهذا اختارها الله فأنزل بها أشرف الكلام، فشرفها بذلك على جميع اللغات
هل في لغات الكون كاللغة التي .. .. يسمو بأحرفها كلام الله
واللغة العربية هي أمتن اللغات، وخير اللغات: أوضحها بيانا، وأذلقها لسانا، وأمدها رواقا، وأعذبها مذاقا.. هي لغة البيان والإيجاز، والفصاحة والبلاغة والإعجاز، جمعت محاسن كل لغة سواها، وفاقت عليها جميعا في جمالها وبهاها.
إن الذي ملأ اللغات محاسنا .. .. جعل الجمال وسره في الضاد
وجوب تعلم العربية
ولما كان القرآنُ الكريم، وسنةُ النبي المصطفى الأمينِ هما أساس الدين وقوامه، وكانا عربيين، تحتَّمَ على من أراد أن يتعلمَ الإسلام، ويتعرف على الأحكام، وأن يتلذذَ بالقرآن، ويستمتع بجماله وبهائه، وحسن نظمه وجميل أثره، وأن يفهم هذا الدين حق الفهم أن يتعلم اللغة العربية.. وما زال أئمتنا عليهم الرضوان يدعون إلى ذلك عبر الأزمان:
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "إنما يعرف فضل القرآن من عرف كلام العرب".
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها".
وقال الإمام مالك : "من تكلم في مسجدنا بغير العربية أُخرجَ منه"(الفتاوى:32/255).
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: "اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون".
وقال أيضا: "إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، لأن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا باللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(اقتضاء الصراط المستقيم:207).
وقد أجمع العلماء قاطبة من السلف والخلف على أن العبد لا يبلغ درجة الاجتهاد حتى يتعلم العربية.
يقول ابن الأنباري: "إن الأئمة من السلف والخلف أجمعوا قاطبة على أنه شرْط فى رتبة الاجتهاد، وأن المجتهد لو جمع كل العلوم لم يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يعلم النحو، فيعرف به المعاني التي لا سبيل لمعرفتها بغيره. فرتبة الاجتهاد متوقفة عليه، لا تتم إلا به".
أعداؤنا والعربية
وقد علم أعداءُ الله، وأعداءُ الدين، وأعداءُ المسلمين، أن لغةَ الأمة هي وعاء الدين، والسياج الحامي له، وهي أساس هويتنا، ومصدر عزنا وثقافتنا، وعنوان مجدنا وحضارتنا، والسبيل إلى نهضتنا.. فلذلك عملوا على تقويض بنائها، وهدم قواعدها، فما من بلد استعمروه إلا حالوا بين الشعوب وبين لغتهم، واستبدلوا بها لغات الغاصب المحتل، حتى يقطعوا الناس عن ثقافتهم وتاريخهم.
وأما البلاد التي لم يستعمروها عسكريا، فقد عملوا على استعمارها ثقافيا وفكريا، فعاثت أيديهم وأيدي أذنابهم في مناهج التعليم؛ ليشوهوا اللغة في عيون أبنائها، ويهونوا شأنها عندهم، ويبغضوها إليهم، حتى يصرفوهم عنها، عملا بقول الرافعي رحمه الله: "ما ذلَّتْ لغةُ شعب قط إلا ذَلُّوا، ولا انحطت إلا كان أمرُهم في ذهابٍ وإدبار".
وعملا بقول الشاعر:
إن الشعوب حياتها بلغاتها .. .. وتموت بالإهمال والنسيان
فإذا أردنا أن ننصر ديننا، ونحفظ هويتنا، ونحيي ثقافتنا وحضارتنا، فعلينا أن نعيد للغتنا العربية هيبتها ومكانتها.
محنة العربية في أبنائها
إن محنة هذه اللغة ليست فيها، وليست في ذاتها، فإنها لغة قوية فتية عصية، غير قابلة للفناء، عصية على كل من أراد هدمها، وهي باقية ببقاء القرآن محفوظة بحفظه؛ ذلك أن الله تكفَّل بحفظ كتابه، وكتاب الله بالعربية، فلابد أن تبقى هذه اللغة دائما وأبدا ما بقي القرآن {
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ
}[الحجر:9].
وإنما محنة هذه اللغة في أبنائها وأتباعها الذين ضيعوها وفرطوا فيها، وقدموا عليها لغات قوم آخرين.
الهزيمة النفسية
لقد جرت علينا الهزيمة العلمية والتكنولوجية والعسكرية هزيمةً أخرى نفسيةً وفكريةً، حتى أننا ظننا أن القومَ طالما سبقونا في العلم والتكنولوجيا، فإن كل ما عندهم أفضل من كل ما عندنا حتى اللغة، فتركنا لغتنا لنتعلم لغتهم.
ثم إن كثيرا منا صدر هذه الهزيمة لأبنائه أو ورَّثها لهم، فترى كثيرا من الآباء يفرح ويبتهج ويفخر بأن ابنه صار يتحدثُ الإنجليزية بطلاقة، في ذات الوقت الذي لا يستطيع هذا الابن أن يقيم جملة عربية سليمة، أو يقرأ سطرا من القرآن من غير لحن، فضلا أن يكون حافظا لأحاديث سيد الخلق عليه الصلاة والسلام.
فظن الأبناء فعلا أن لغةَ الغرب، أفضلُ من لغتنا العربية، وأحسن وأجمل.. ثم إنهم ما زالوا يسمعون آباءهم والناس يقولون إنها لغة صعبة، وإنها تحتاج وتستحق أن ينظر فيها بالتيسير والتغيير والإصلاح، فاستصعبوها واستعظموها، مع أنهم لو تعلموها وعرفوها وفهموها لتلذذوا بها، ولاستمتعوا بجمال معانيها، وكمال مبانيها، وحسن ما فيها.
ويزيد الطين بلة مع العمالة الوافدة، فبدلا من أن نرفعهم بلغتنا درجات، ونقيم ألسنتهم بلغتنا الصحيحة السليمة الفصيحة، إذا هم ينزلون بنا دركات، ويعوجون ألسنتا فأصبحنا نتكلم لغة هجينة عجينة، لا هي بالعربية ولا هي بالأعجمية، فأفسدنا اللغتين معا.
خاتمة
في الختام أريد أن أقول: إنني لست ضد تعلم اللغات الأجنبية، بل أحبذ ذلك وبشدة وأدعو إليه، ولكن ليس على حساب اللغة العربية.
تعلموا لغة الآخر، وتعلموا لغة العلم، وتعلموا لغة العدو لتأمنوا مكرهم وشرهم، ولكن لا تهملوا لغتكم ولا تضيعوا لسانكم.
إننا مطالبون بإيصال الدين إلى جميع الخلق في أقطار الأرض، ومع الدين ننشر اللغة كما فعل الأولون، فإن عجزنا عن ذلك فلا أقل من أن نحافظ على اللغة في ديارنا وبلادنا.
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.