ويبقى الود ما بقي العتاب

الوصف: إن المعاتبة تزيل صدأ البغض والكراهية من القلوب، وتزيد المحبّة والألفة، وتذهب نزغ الشّيطان ووساوسه، وتنق


صورة القسم 1

إن المعاتبة تزيل صدأ البغض والكراهية من القلوب، وتزيد المحبّة والألفة، وتذهب نزغ الشّيطان ووساوسه، وتنقّي النّفوس وتطهّرها من ظنون الإثم، وتقوّي أواصر الودّ بين أبناء المجتمع.
وإذا نظرت في القرآن الكريم رأيت كيف أن الله عز وجل قد عاتب بعض أنبيائه ورسله وبعض عباده الصالحين ..
قال تعالى: { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ..} [التوبة 43] ، وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ..} [ التحريم: 1] ، وقال: { عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } [ عبس 1 ـ 3].
وقال عز وجل: { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ التوبة 118].
وإذا رجعت إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ستجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعاتَب ويعاتِب ..
عن عمرو بن تغلب- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتي بمال- أو سبي- فقسمه فأعطى رجالا وترك رجالا، فبلغه أنّ الّذين ترك عتبوا، فحمد الله، ثمّ أثنى عليه، ثمّ قال: "أمّا بعد، فوالله إنّي لأعطي الرّجل، والّذي أَدَع أحَبُّ إليّ من الّذي أعطي، ولكن أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأَكِلُ أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، فيهم عمرو بن تغلب".
وها هو يقول صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن عمر: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل".
وهكذا في مواقف أخرى نراه يقبل عتاب بعض أصحابه ويعاتبهم.
قال الشّاعر:
أعاتب ذا المودّة من صديق إذا ما رابني منه اجتناب
إذا ذهب العتاب فليس ودّ ويبقى الودّ ما بقي العتاب

العتاب بين المدح والذم:
قيل: العتاب خير من الحقد، ولا يكون العتاب إلّا على زلّة، وقد مدحه قوم فقالوا: العتاب حدائق المتحابّين، ودليل على بقاء المودّة … وذمّه بعضهم، قال إياس بن معاوية: خرجت في سفر ومعي رجل من الأعراب، فلمّا كان في بعض المناهل لقيه ابن عمّ له فتعانقا، وتعاتبا وإلى جانبهما شيخ من الحيّ. فقال لهما: أنعما عيشا، إنّ المعاتبة تبعث التّجنّي، والتّجنّي يبعث المخاصمة، والمخاصمة تبعث العداوة، ولا خير في شيء ثمرته العداوة، قال الشّاعر:
فدع العتاب فربّ شرر هاج أوّله العتاب
والحق أن العتاب في أصله شيء حسن؛ إذ الدافع إليه الحرص على الصاحب والمحبة له والقيام بحق النصح، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: معاتبة الأخ خير من فقده.
لكن العتاب قد ينقلب إلى سبب من أسباب القطيعة والعداوة إذا تجاوز الحد وصار عادة أو استعملت فيه الألفاظ القاسية والنظرات الحادة.

من أسباب الانتفاع بالمعاتبة:
إليك بعض أسباب الانتفاع بالعتاب، ومنها:
أولا: اجتناب كثرة اللوم:
إذا كان العتاب في أصله من أسباب دوام المودة، فإن اتخاذه عادة والإكثار منه كلما لقينا أحبابنا
يُنَفِّر منك الصديق، ويبعد عنك المحب، ولحظةُ كدرٍ وحِدَّةٍ في عتاب؛ قد تفسد عليك أخوة عُمُرٍ:
ومن لا يُغْمِضْ عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يَمُتْ وهو عاتب
ومَنْ يتتبَّعْ جاهداً كلَّ عثـرةٍ ... يجدْها ولا يسلم له الدهر صاحب
وإذا أردت مصاحبة الناس فلابد من التغافل وترك العتاب أحيانا
قال بشّار بن برد:
إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا … صديقك لن تلقى الّذي لا تعاتبه
وإن أنت لم تشرب مرارا على القذى … ظمئت وأيّ النّاس تصفو مشاربه؟
فعش واحدا أو صل أخاك فإنّه … مقارف ذنب مرّة ومجانبه
وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه الذي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلتُه لم فعلتَه، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته.

ثانيا: لا تطلب العصمة من الآخرين:
بل توقع منهم الخطأ لأنه من طبيعة البشر، وكن على يقين أنك لن تجد في صحبتك مَن لا يخطئ
ومَن ذا الذي تُرضَى سجاياه كلُّها ... كفى بالمرء نبلا أن تُعدَّ معايبه
وسل نفسك: هل انت معصوم من الخطأ؟ وإذا كانت الإجابة يقينا: لا، فأولى بك أن تتوقع الخطأ من الآخرين.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ".
مَن ذا الذي ما ساء قط ومَن ذا الذي له الحسنى فقط
كان ابن عرادة السّعديّ مع سلم بن زياد بخراسان، وكان له مُكرما، وابن عرادة يتجنّى عليه، ففارقه وصاحب غيره، ثمّ ندم ورجع إليه، وقال:
عتبتُ على سلم فلمّا فقدته … وصاحبت أقواما بكيت على سلم
رجعت إليه بعد تجريب غيره … فكان كَبُرءٍ بعد طول من السّقم

ثالثا: التمس العذر وبيِّن الخطأ!
لا ينبغي أن نتعامل مع أخطاء الناس كأننا لا نخطئ، بل نلتمس الأعذار ونبين للمخطئ وننصحه عسى أن يكون جاهلا أو متأولا، أو له عذر لا نعلمه، فإذا علمناه ونصحناه رجع عن خطئه.
يدخل شاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فيقول الشاب: يا رسول الله إئذن لي في الزنا!.
يريد الزنا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
فأقبل القوم عليه وزجروه فقالوا: مَه مَه. فقال: " ادنه ". فدنا منه قريبا فقال: " أتحبه لأمك؟ " قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: " ولا الناس يحبونه لأمهاتهم ". قال: " أفتحبه لابنتك؟ " قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم ". قال: " أفتحبه لأختك؟ " قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: " ولا الناس يحبونه لأخواتهم ". قال: " أتحبه لعمتك؟ " قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: " ولا الناس يحبونه لعماتهم ". قال: " أتحبه لخالتك؟ " قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: " ولا الناس يحبونه لخالاتهم ". قال: فوضع يده عليه وقال: " اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه ". فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.

رابعا: اختيار ألطف وأرق الكلمات:
قال الله تعالى: { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا }[الإسراء: 53].
وفي الحديث: " والكلمة الطيبة صدقة ".
إن الكلمة السيئة تؤذي النفوس وتجرح المشاعر وقد تَصُدُّ عن قبول النصح، وقد قال الله تعالى لنبيين كريمين حين أرسلهما إلى شر الناس فرعون: { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ }[سورة طه: 44].

خامسا: لا تحول العتاب إلى جدال:
ينبغي أن يكون الغرض من العتاب رد الصديق عن خطأ أو تمحيص النصح له، فإذا تحول العتاب إلى الجدال قد يظن أنك تنتقص منه وتعيبه فيدفعه ذلك إلى رفض النصح ومحاولة الانتصار لنفسه ثم تكون القطيعة وربما العداوة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المراء ولو كان مُحِقّاً ". فإذا رأيت العتاب قد يتحول إلى الجدل فانسحب بهدوء وليكن شعارك: " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ".