كسرى وقيصر في السيرة النبوية
الوصف: أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم ـ عن كثير من الأشياء التي تحدُث في المستقبل، فوقعَت كما أ
أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم ـ عن كثير من الأشياء التي تحدُث في المستقبل، فوقعَت كما أخبرنا تمامًا، وهذا دليل على أن الله - عز وجل - قد أَوحى إليه - صلى الله عليه وسلم -، وأطلعه على أشياء من علم الغيب، الذي لا يُمكِن الوصول إليه إلا بالوحي، كما قال تعالى: {
عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا
}(الجنّ الآية 26: 27) . وكان
حسان بن ثابت
ـ رضي الله عنه ـ يقول :
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتاب الله في كل مشهد
فإن قال في يوم مقالة غائب فتصديقها في صحوة اليوم أوْ غد
لقد كان في زمان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دولتان عظيمتان، وعلى رأس هاتين الدولتين رجلان: كِسْرَى عظيم الفرس، وقيْصَر عظيم الروم، ومن الأمور المستقبلية التي وقعت كما ذكرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحاديثه المتعلقة بكِسرى وقيْصر ومُلْكِهِمَا .
زوال ملك كسرى وقيصر :
عن
أبي هريرة
ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (
إذا هلك كسرى فلا كِسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصرَ بعده، والذي نفس محمد بيده، لتُنفَقَنَّ كنوزُهما في سبيل الله
) رواه
البخاري
.
قال
النووي
في شرحه لصحيح
مسلم
: " قال
الشافعي
وسائر العلماء: معناه لا يكون كسرى بالعراق، ولا قيصر بالشام كما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، فأعلمنا - صلى الله عليه وسلم - بانقطاع ملكِهما في هذَين الإقليمين، فكان كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأما كسرى، فانقطَع ملكه وزال بالكلية من جميع الأرض، وتمزَّق ملكه كل مُمزَّق، واضمحلَّ بدعوة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأما قيصر فانهزَمَ من الشام، ودخل أقاصي بلاده، فافتتَح المسلمون بلادهما، واستقرَّت للمسلمين، ولله الحمد، وأنفق المسلمون كنوزهما في سبيل الله كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - وهذه معجزات ظاهرة " .
وقال
ابن حجر
: " وقد استشكل هذا مع بقاء مملكة الفرس لأن آخرهم قتل في زمان
عثمان
، واستشكل أيضا مع بقاء مملكة الروم، وأجيب عن ذلك بأن المراد لا يبقى كسرى بالعراق ولا قيصر بالشام، وهذا منقول عن
الشافعي
، قال: وسبب الحديث أن قريشا كانوا يأتون الشام والعراق تجارا فلما أسلموا خافوا انقطاع سفرهم إليهما لدخولهم في الإسلام، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك لهم تطييبا لقلوبهم، وتبشيراً لهم بأن ملكهما سيزول عن الإقليمين المذكورين، وقيل الحكمة في أن قيصر بقي ملكه وإنما ارتفع من الشام وما والاها، وكسرى ذهب ملكه أصلا ورأسا: أن قيصر لما جاءه كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبِله وكاد أن يُسْلِم، وكسرى لما أتاه كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مزقه، فدعا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يمزق ملكه كل مُمَزَّق، فكان كذلك، قال
الخطابي
: معناه فلا قيصر بعده يملك مثل ما يملك " .
فتح كنوز كسرى وقيصر :
عن
ثوبان
- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (
إن الله زَوَى لي الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإن أُمتي سيبلغ مُلكها ما زُوِي لي منها، وأُعطيتُ الكنزين: الأحمر والأبيض
(الذهب والفضة) .. ) رواه
مسلم
.
لقد عبَّر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأحمر عن كنز قيصر، لأن الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى، لأن الغالب عندهم كان الفضة والجوهر .
قال
النووي
: " قال العلماء: المراد بالكنزين: الذهب والفضة، والمراد كنزا كسرى وقيصر ملكي العراق والشام، فيه إشارة إلى أن ملك هذه الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب، وهكذا وقع، وأما في جهتي الجنوب والشمال فقليل بالنسبة إلى المشرق، وصلوات الله وسلامه على رسوله الصادق، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى " .
وقال
القرطبي
: " قوله: (
أعطيت الكنزين
) يعني به: كنز كسرى وهو ملك الفرس، وملك قيصر وهو ملك الروم، وقصورهما وبلادهما، وقد دل على ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الآخر: (
لتنفقن كنوزهما في سبيل الله
)، وعبّر بالأحمر عن كنز قيصر لأن الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى لأن الغالب عندهم كان الفضة والجوهر، وقد ظهر ذلك، ووجد كذلك في زمان الفتوح، في خلافة
عمر
ـ رضي الله تعالى عنه ـ، فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته، وما كان في بيوت أمواله، وجميع ما حوته مملكته، على سعتها وعظمتها، وكذلك فعل الله تعالى بقيصر، لما فتحت بلاده " .
وعن
عدي بن حاتم
ـ رضي الله عنه ـ قال: (
بينما أنا عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا
عدي
! هل رأيت الحيرة؟، قلتُ: لم أرها، وقد أنبئت عنها، فقال: إن طالت بك حياة لترين الظعينة
(المرأة)
ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله، قلتُ في نفسي: فأين دعّار طيئ
(قطاع الطريق)
الذين سعروا في البلاد؟!، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلتُ: كسرى بن هرمز؟!، قال: كسرى بن هرمز!!، ولئن طالت بك حياة، لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله فلا يجد أحدًا يقبله منه
) رواه
البخاري
.
قال
عدي
: " فرأيتُ الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخرج ملء كفه " .
فائدة :
أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسائل للملوك والأمراء في عصره يدعوهم إلى الإسلام، ومنهم: كسرى وقيصر .
عن
أنس
ـ رضي الله عنه ـ: (
أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتب إلى كسرى وقيصر وإلى النجاشي - وهو غير الذي صلّى عليه -، وإلى كل جبّار يدعوهم إلى الله ـ عز وجل ـ
) رواه
مسلم
.
رسالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهرقل:
عن
عبد الله بن عباس
ـ رضي الله عنه ـ: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه إليه
دحية الكلبي
،
وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر، فإذا فيه : "
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت عليك إثم الأريسيِّين
،
{
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
}(آل عمران64) ) رواه
البخاري
.
وقد تسلم هرقل رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودقق في الأمر كما في الحديث الطويل المشهور بينه وبين
أبي سفيان
، حين سأله عن أحوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقال هرقل بعد ذلك
لأبي سفيان
: " إن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه (تكلفت الوصول إليه)، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه " رواه
البخاري
، وفي رواية
مسلم
: " لأحببت لقاءه " .
رسالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى كسرى ملك فارس:
وقد أرسلها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع
عبد الله بن حذافة
ـ رضي الله عنه ـ كما ذكر
الواقدي
، وكان فيها: (
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم ، فإن أبيت فعليك إثم المجوس
) .
قال
الطبري
في تاريخه : " وقد اختلف تلقي الملوك لهذه الرسائل، فأما هرقل
والنجاشي
والمقوقس، فتأدبوا وتلطفوا في جوابهم، وأكرم
النجاشي
والمقوقس رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرسل المقوقس هدايا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. وأما كسرى لما قريء عليه الكتاب مزقه ".
قال
ابن المسيب
: " فدعا عليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (
أن يمزقوا كل ممزق
) رواه
البخاري
، وقد وقع ما دعا به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد استولى على عرش كسرى ابنه قباذ الملقب بـشيرويه، وقُتِل كسرى ذليلاً مهاناً، وتمزق ملكه بعد وفاته وأصبح لعبة في أيدي أبناء الأسرة الحاكمة، ولم يعش شيرويه إلا ستة أشهر، وتوالى على عرشه في مدة أربع سنوات عشرة ملوك، وهكذا تحقق دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه .
إن من عظيم دلائل نبوَّة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم - ما وقع من إخباره عن أحداث وأمور غيبية مستقبلية وقعت بعد وفاته كما أخبر، والأحاديث في هذا القسم كثيرة جدا، اعتنى بجمعها وذكرها عدد كبير من الأئمة والأعلام
كالبيهقي
في " دلائل النبوة "، و
ابن كثير
في " البداية والنهاية "، و
السيوطي
في " الخصائص الكبرى " .