ألا هل برّكت

الوصف: عن أبي


صورة القسم 1

عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: "مرّ عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف رضي الله عنهما وهو يغتسل، فقال: لم أر كاليوم ولا جِلدَ مُخبّأة، فما لبث أن لُبِطَ به، فأتي به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: أدرك سهلاً صريعاً، قال : ( من تتهمون به؟) ، قالوا: عامر بن ربيعة ، فقال: ( علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة ) ، ثم دعا بماء، فأمر عامراً أن يتوضأ، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه" رواه ابن ماجة .

وفي رواية للطبراني وغيره: "فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس".

معاني المفردات

جِلدَ مُخبّأة: المخبّأة هي الجارية التي في خدرها لم تتزوج بعد.

لُبِطَ به: صُرِع بسببه وسقط على الأرض.

فليدع له بالبركة: فليقل له بارك الله فيك.

وداخِلَة إزاره: طرفه وحاشيته من الداخل.

تفاصيل الموقف

بين مهاجري وأنصاري استحكمت عُرى المحبّة وتشابكت أغصان الأخوة حتى غدت جنّة وارفة الظلال، أما المهاجري: فهو عامر بن ربيعة أحد السابقين الأوّلين والقلائل المعدودين الذين هاجروا الهجرتين وشهدوا مع رسول الله -صلى الله عليه و سلم- غزوة بدر، وأما الأنصاري: فهو سهل بن حنيف أحد الأبطال الذين شهدت لهم ساحات القتال بشجاعتهم وثباتهم، لا سيّما يوم أحد حين انكشف الناس عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فبايعه يومئذٍ على الموت وقام ينافح عنه بالنَبل، حتى انكشفت الغمّة وانتهت المعركة.

ولقد قامت دلائل المحبّة بين الصحابييّن الجليلين واضحةً لكل من كان يعرفهما ويراهما، ومن بين تلك الدلائل ما كان بينهما من التزاور والتلاقي بين الحين والآخر، خصوصاً إذا استبطأ أحدهما رؤية أخيه أو افتقده.

ويوماً عزم عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن يزور أخاه سهلاً كعادته، فدخل عليه فإذا به يغتسل، وعندها توقّف عامر رضي الله عنه مشدوهاً، وهاله ما رآه من جمال أخيه الأنصاري الذي فاقت محاسنه كلّ تصوّر، فلم يُر قط بياضٌ كبياض جلده، ولا زهرة كزهرة لونه، فانفلت لسان عامر المعجب قائلاً: " لم أر كاليوم ولا جِلدَ مُخبّأة!".

وما أن خرجت تلك الكلمات من فم عامر رضي الله عنه حتى انطلقت سهماً صائباً في أخيه، فتهاوى جسده وتخاذلت قدماه، وخرّ صريعاً من لحظته.

تفاجأ عامر رضي الله عنه بما حدث، فلم يكن يتصوّر أن تُحدث كلماته في أخيه كلّ هذا الأثر، وندم على تسرّعه وتلقائيّته، وفي الوقت ذاته: ألجمته المصيبة التي حلّت فلم يدرِ ما يصنع.

وسرعان ما حُمل سهل رضي الله عنه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- والناس ينظرون إليه فزعين، وكلماتهم تستنجد برسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليُرشدهم في إنقاذه قائلين: " أدرك سهلاً صريعاً".

نظر النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى سهل رضي الله عنه وهو في حالةٍ يُرثى لها من الإعياء والإجهاد، وأدرك من النظرة الأولى أنه مصابٌ بالعين، فاستفسر عن الفاعل، فأُخبر أنه عامر رضي الله عنه، فغضب لذلك ووجه كلامه لعامّة من كان حوله: ( علام يقتل أحدكم أخاه؟) ، وحتى لا تتكرّر المأساة بيّن لهم ما يجب فعله على من رأى ما يُعجبه: (إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة ) .

وبعد التحصين جاء دور العلاج، فدعا بماء وأمر عامراً أن يتوضأ منه ، فيغسل الوجه واليدين، ثم الركبتين وطرف الإزار، ثم أمر أن يُجمع ذلك الماء فيُصبّ على سهل رضي الله عنه، وسرعان ما انجلت الغُمّة وانكشف البلاء، وزالت العين، لتكون تلك الحادثة شاهدة على أثر العين، ودرساً مهماً في كيفية التعامل معها.

إضاءات حول الموقف

تُبرز الحادثة التي وقفنا معها مدى خطورة العين وقوّة تأثيرها وبالغ ضررها؛ فهي ذلك السهم الذي لا يُرى بالعيون المجرّدة ولكن يُدرك أثرها من خلال نتائجها الوخيمة، فتجعل السليم سقيماً، والقوي ضعيفاً، والكثير قليلاً، والخصيب قاحلاً، بل هي القادرة على إنزال الفارس عن مركبه، وإيراد الرجل القبر، وإدخال الجمل القدر، كما صحّ بذلك الحديث.

ولأن العين حق، وأثرها نافذ وشرّها واقع، جاءت الأوامر الشرعيّة والنصوص النبويّة لتحذّر الناس من خطرها، وتدعوهم إلى التحصّن منها، وتبيّن لهم سبل الوقاية، وكيفيّة رفع بلائها.

فقد جاءت الوصيّة من النبي –صلى الله عليه وسلم- بالتزام الأذكار والأوراد الشرعيّة في كل يوم وليلة، كقراءة آية الكرسي، والدعاء بقول: " أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة"، وقول: " أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق"، والمداومة على قراءة سورتي "الفلق والناس" التي قال عنهما النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما تعوذ متعوذ بمثلهما) رواه أبو داوود .

كما جاء التشديد على ضرورة ذكر الله تعالى والدعاء بالبركة عند رؤية المستحسن من الأمور، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ( إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة؛ فإن العين حق) رواه الحاكم .

فإذا وقعت العين، شُرعت الرقية لدفعها، وقد كان جبريل عليه السلام يرقي النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله: " بسم الله أرقيك من كل شىء يؤذيك ، من شر كل نفس أو عينِ حاسد ، الله يشفيك، باسم الله أرقيك" رواه مسلم ، ورخّص النبي عليه الصلاة والسلام-كما صحّ عنه- بالرقى ما لم تكن شركاً.

ومن وسائل الاستشفاء من العين، الاغتسال من الماء الذي توضّأ منه العائن واغتسل به على نحو ما مرّ بنا في الموقف الذي تناولناه، ولا ينبغي للمسلم أن يمتنع من الاغتسال إذا اتُّهم بالعين، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا استُغسلتم فاغتسلوا) رواه مسلم .

ومما يعين على درء العين والوقاية منها، ستر المحاسن عن أعين الناس حتى يُؤمن جانبهم، خصوصاً إذا كان الستر عند من لا يُؤمن شرّه، وقد رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه غلاماً جميلاً ، فأمر أهله أن يخفوا جماله حتى لا تصيبه العين.

وخير ما نختم به قول الإمام ابن القيم في هذا الباب، حيث قال: " ومن جرّب هذه الدعوات والتعوّذات عرف مقدار منفعتها وشدة الحاجة إليها ، وهي تمنع وصول أثر العائن ، وتدفعه بعد وصوله ، بحسب قوة إيمان قائلها ، وقوة نفسه واستعداده ، وقوة توكله وثبات قلبه ، فإنها سلاح ، والسلاح بضاربه لا بحدّه" .