فيك جاهليّة
الوصف: عن المعرور بن سويد قال : "رأيت أبا ذر
عن
المعرور بن سويد
قال
: "رأيت
أبا ذر
رضي الله عنه وعليه بُردٌ وعلى غلامه بُرد، فقلت: لو أخذتَ هذا فلبسته كانت حلّة، وأعطيته ثوباً آخر، فقال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية فنلت منها، فذكرني إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي:
( أساببت فلاناً؟ )
، قلت: نعم قال:
( أفنلت من أمه؟ )
، قلت: نعم، قال:
( إنك امرؤ فيك جاهلية )
، قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن ؟، قال:
( نعم، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليُعِنْه عليه )
"متفق عليه واللفظ
للبخاري
.
وفي رواية مسلم : "فشكاني إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- فلقيت النبى -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) ، قلت: يا رسول الله، من سبّ الرجال سبّوا أباه وأمه، قال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) ".
وفي رواية
أبي داوود
:
(إنهم إخوانكم فضّلكم الله عليهم، فمن لم يلائمكم فبيعوه ولا تعذّبوا خلق الله)
.
معاني المفردات
بُرد: هو كساء مربع مخطط
حلّة: الحلة هي ثوبان من جنس واحد يلبسان معاّ
.
أعجمية: حبشية من غير العرب.
نلت منها: أي ذمّها.
فعيّرته بأمّه: عاب عليه بسبب أمه لكونها سوداء.
فيك جاهلية: أي خصلة من خصال الجاهلية وهي التفاخر بالآباء.
على حين ساعتي هذه من كبر السن: يعني بعد هذا العمر الطويل الذي قضاه في الإسلام؟
خَوَلكم : الخول : أتباع الرجل، وهو اسم يقع على العبد .
تحت أيديكم: أي تحت سلطتكم.
ما يغلبهم: ما يعجزون عن القيام به
يلائمكم : يناسبكم؟
تفاصيل الموقف
في بادية من البوادي التي تحيط بالمدينة، عاش شيخٌ وقور كانت له قدم صدقٍ عند ربّه، وقد كان من أوائل الذين التحقوا بقوافل المؤمنين والرسالة المحمّدية، ومن النوادر الذين بدؤوا صفحات حياتهم بالمواجهة والتحدّي والمصادمة مع أعداء الملّة وطواغيت الكفر، فأصابه لأجل ذلك أذىً كثيراً، وما زاده البلاء إلا استمساكاً بدين الله وإقبالاً على تعاليمه، كما أن إسلامه كان فاتحة خيرٍ على عشيرته الذين تابعوه على دينه.
ذلك هو الصحابي الجليل
أبو ذر الغفاري
رضي الله عنه، شريفٌ من أشراف قومه، وصاحب القلب الحيّ والنفس الأبيّة والشعور المرهف، والذي كان يرى في نفسه رابع أربعةٍ دخلوا الإسلام، وإن كان قد ثبت إسلامُ نفرٍ قبله ومنهم آل النبي – صلى الله عليه وسلم- إلا أن ذلك يعني أنّه من الرعيل الأوّل في الإسلام.
وعندما تُوفّي النبي – صلى الله عليه وسلم- قرّر ابو ذر رضي الله عنه أن يستقرّ في موضعٍ يُقال له:"الربذة"، فرآه يوماً المعرور بن سويد وعليه حلّة جميلة، إلا أنّه اقتسمها مع غلامه الذي يرافقه بحيث ائتزر أحدهما بالنصف الأوّل وارتدى الآخر نصفها الثاني، فاحتار المعرور من هذه القسمة الغريبة، وتعجّب كيف لم يقم أبو ذر رضي الله عنه بارتداء كلا القطعتين لتصبحا حلّةً كاملة عليه، ثم يُعطي الغلام ثوباً آخر!!، ونقل تساؤله إلى صحابيّ رسول الله ليقف على الحقيقة ويطّلع على الحكمة من هذا التصرّف.
لكنّ كلام
المعرور
أثار ذكرياتٍ قديمة ما كان
لأبي ذر
رضي الله عنه أن ينساها، وأنّى له ذلك وقد نال من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عتاباً بلغ من نفسه مبلغاً كبيراً، وأحدث في حياته نقطة تحوّل في منهج التعامل مع الضعفاء، فمضى
أبو ذرّ
يشرح لصاحبه وقائع تلك الذكريات.
كان ذلك فيما مضى، إذ كان
لأبي ذر
رضي الله عنه عبدٌ مملوك، وحصل أن دار بينهما خلافٌ حول مسألةٍ ما، وتطوّر الخلاف إلى تلاسن بالقول وتراشقٍ بالألفاظ، فعيّر
أبو ذر
رضي الله عنه الرجل بأمّه الأعجمية فقال: "يا ابن السوداء"، فغضب العبد من هذه المقولة لما انطوت عليه من استنقاصٍ وتعريضٍ به، فانطلق إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يشكو إليه قول
أبي ذر
رضي الله عنه.
وعندما استمع النبي –صلى الله عليه وسلم- شكاية العبد تمعّر وجهه غضباً، وقال
لأبي ذر
رضي الله عنه:
( أساببت فلاناً؟، أفنلت من أمه؟)
، فاعتذر قائلاً: "يا رسول الله، من سبّ الرجال سبّوا أباه وأمه"، لكنّ اعتذاراً كهذا لا يمكن القبول به في ميزان الشرع، بل هو ضربٌ من ضروب العصبيّات الجاهليّة التي جاء الإسلام لاجتثاثها، فقال له عليه الصلاة والسلام:
(يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية)
".
استعظم
أبو ذر
رضي الله عنه أن يتبقّى فيه من رواسب الجاهليّة شيء، وهو الذي ظلّ يُفاخر الناس بإسلامه مبكّراً، واستاء أن يتسلّل إليه ذلك الخلق دون انتباهه، فقال رضي الله عنه: "على حين ساعتي هذه من كبر السن ؟"، فجاءه الجواب:
(نعم)
ثم تطرّق النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى قيمٍ أخلاقيّة ومُثُلٍ عالية لم يحظ بمثلها الضعفاء على مرّ العصور:
( إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليُعِنْه عليه )
.
وبعد أن انتهى
أبو ذر
رضي الله عنه من سرد الموقف أدرك
المعرور
سبب اقتسامه للحلّة بينه وبين غلامه، إنه الإحسان إلى من جعله الله تحت يديه وسخّره لخدمته وتحقيق رغباته، ومنذ ذلك اليوم والألسنة تتناقل هذه القصّة لتبقى شاهداً على عظمة الإسلام وأهله.
إضاءات حول الموقف
لم يحذّر النبي –صلى الله عليه وسلم- من شيء تحذيره من الجاهليّة وأخلاقها، وقيمها ومبادئها، حتى إنه عليه الصلاة والسلام جعل لهذه القضيّة نصيباً من خطبته يوم عرفة حيث قال:
( ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)
رواه
مسلم
.
ومن صور الجاهليّة التي يقع فيها الناس بين الحين والآخر: التنقيص بالآباء والأمهات؛ ذلك أن مثل هذه المعايير المبنيّة على المفاخرة الكاذبة والنظرة الدونيّة للآخرين تتنافى مع الإيمان بوحدة الناس من جهة النسب بأبينا
آدم
وأمّنا
حوّاء
عليهما السلام، قال سبحانه وتعالى:
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء}
(النساء:1)، والشرف كلّ الشرف إنما هو في تقوى الله عز وجل والالتزام بشريعته الغرّاء بعيداً عن القيم الأرضيّة والفوارق التي يذكرها الناس من النسب أو اللون أو الجاه ونحو ذلك، بل الكل يُقيّم بحسب الميزان الإلهيّ الأوحد، قال تعالى:
{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم}
(الحجرات:13).
وفي الموقف النبويّ الوصيّة بالضعفاء والتنبيه على حقوقهم، فهم "إخوة" قبل أن يكونوا خدماً، وقد سخّرهم الله لأسيادهم، فكان لهم الحق في المطعم الذي يُناسبهم والملبس الذي يلائم حالهم، مع عدم تكليفهم بالأعمال الشاقة التي تفوق قدراتهم وملكاتهم فيعجزون عن القيام بها، وإن كان لابد من تكليفهم بمثل هذه الأعمال فلابد من إعانتهم عليها، وإن لم يحصل التوافق والانسجام بين السيّد والعبد ولم تصل كفاءة العمل إلى المستوى المطلوب فالحلّ يكون في بيع العبد والبحث عن غيره، لا أن يُعذّب بأعمالٍ لا يطيقها.
والعجب من موقف
أبي ذرٍّ
رضي الله عنه من هذه الوصيّة، فعلى الرغم من أنها كانت تدعو إلى مجرّد المواساة لا المساواة، إلا أن
أبا ذرّ
أصرّ على أن يُعامل مماليكه وخدمه بالأكمل والأفضل، فالتزم المساواة بينه وبينهم، ولم ذلك في موقفٍ عابرٍ أو حالةٍ استثنائيّة، ولكن سلوكاً راسخاً ظلّ يطبّقه طيلة حياته.
وفي الحديث جملة أخرى من الفوائد، منها: تحريم أذيّة المسلم بالقول أوالفعل، والنهي عن التنابز بالألقاب كما جاء في الآية الكريمة، وبيان قرب النبي –صلى الله عليه وسلم- من جميع طبقات المجتمع، بحيث يستطيع الجميع أن يحادثه ويشتكي إليه ويُناجيه، وحرصه عليه الصلاة والسلام على وحدة الصفّ الإسلامي، ووضوح سرعة استجابة الصحابة للأوامر الشرعيّة.