فوائد وأحكام في قصة خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَة ـ الْمُجَادَلَة ـ
الوصف: موقف من مواقف السيرة النبوية، وقع في إحدى البيوت الإسلامية في المدينة المنورة، بين
موقف من مواقف السيرة النبوية، وقع في إحدى البيوت الإسلامية في المدينة المنورة، بين
خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَة
وزوجها
أوس بن الصامت
(أخو
عبادة بن الصامت
) رضي الله عنهما، وفيه راجعت
خولة
رضي الله عنها زوجها في شيء أثار غضبه، فقال لها: أنت عليَّ كظهر أمي، أي محرمة عليّ، ثم بعد ذلك أراد أن يباشرها فأبت وامتنعت عنه، وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكت إليه، فنزل القرآن الكريم بآيات الظهار في مطلع سورة المجادلة، لتقدم الحل والحكم لهذه القضية: {
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
} (المجادلة 2:1)، قال
السعدي
: "المظاهرة من الزوجة: أن يقول الرجل لزوجته: "أنت علي َّكظهر أمي" أو غيرها من محارمه، أو "أنت عليَّ حرام"".
روى
أحمد
وغيره عن
خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَة
رضي الله عنها قالت: (وَاللَّهِ فِيَّ وَفِي
أَوْسِ بْنِ الصَامِتٍ
أنزل الله عز وجل صدر سورة المجادلة، قالت: كنتُ عنده وكان شيخاً كبيراً قد ساء خُلُقُه وضجر، قالت: فدخل عليَّ يوماً فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت عليَّ كظهر أمي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليَّ، فإذا هو يريدني على نفسي، قالت: فقلت: كلا، والذي نفس
خويلة
بيده لا تخلص إليَّ وقد قلتَ ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه. قالت: فواثبني، وامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابها، ثم خرجت حتى جئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، فجعلت أشكو إليه صلى الله عليه وسلم ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
يا
خويلة
! ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه
، قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيَّ القرآن فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سُرّي عنه، فقال لي:
يا
خويلة
قد أنزل الله فيك وفي صاحبك. ثم قرأ عليَّ:
{
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
} (المجادلة: 1) إلى قوله: {
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
} (المجادلة:4)، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مريه فليعتق رقبة
،
قالت: فقلت: والله يا رسول الله ما عنده ما يعتق، قال:
فليصم شهرين متتابعين
،
قالت: فقلت: والله يا رسول الله! إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال:
فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر
،
قالت: قلت: والله يا رسول الله ما ذاك عنده، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فإنا سنعينه بعرق من تمر
،
قالت: فقلت: وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر، قال:
قد أصبتِ
وأحسنت، فاذهبي فتصدقي عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا،
قالت: ففعلت).
قال
ابن حجر
بعد أن ذكر أن الحديث: "أخرجه
أحمد
وغيره، وهذا أصحّ ما ورد في قصّة المجادلة، وتسميتها".
وأخرج
ابن حبان
ـ وصححه
الألباني
ـ عن
عائشة
رضي الله عنها قالت: (تبارك الذي وسِعَ سمعُهُ كل شيء، إني لأسمع كلام
خولة بنت ثعلبة
ويخفَى علَيَّ بعضه وهي تشتَكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله، أَكَل شَبابي، ونثرتُ له بَطني، حتَّى إذا كبُرَتْ سِنِّي، وانقطع ولَدي، ظاهرَ منِّي، اللَّهمَّ إنِّي أشكو إليك، فما برِحَتْ حتَّى نزل جِبرائيل بِهَؤلاءِ الآيات: {
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
} (المجادلة: 1)).
وفي موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع
خولة بنت ثعلبة
رضي الله عنها فوائد كثيرة، منها:
ـ
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، ورِفقه بأصحابه، وحرصه عليهم، واهتمامه بهم. فعلى الرغم من كثرة مسئولياته ومشاغله، كان عنده الوقت ليفصل في الأمور الحياتية العادية بين أصحابه، دون قيود أو حواجز تحول بينه وبين كل فرد من أمته ليدخل عليه، ولم يدّع العلم بكل شيء، بل قال رأيه، وسمح
لخولة
رضي الله عنها أن تحاوره، حتى نزل القرآن الكريم بالحل، وقد قال
لخولة
رضي الله عنها موصياً لها بزوجها: (
يا
خويلة
! ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه
...
فاذهبي فتصدقي عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا
).
ـ
هذا الموقف كان سبباً لنزول مطلع سورة المجادلة، ومن ثم فمواقف وأحداث السيرة النبوية أرضاً خصبة لمفسري القرآن الكريم، بما توفره من معرفة أسباب نزول الآيات والمواقف التي نزلت فيها، فالكثير من الآيات القرآنية نزلت إثر حوادث طرأت، أو مشاكل وقعت في المجتمع الإسلامي حينئذ، أو أسئلة وُجِّهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت هذه الآيات القرآنية تحمل الإجابة، أو تبين الحكم والغاية والهدف، ولا ريب أن معرفة أسباب النزول ضروري لمن يتصدى لتفسير كلام القرآن الكريم، قال
الواحدي
: "لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها"، وقال
ابن تيمية
: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسَبَب يورث العلم بالمُسَّبِّب".
ـ
نزول تشريع وحكم يُعمل به إلى يوم القيامة، وهذا التشريع هو: حل مشكلة الظهار، وهو قول الرجل لزوجته: "أنت عليَّ حرام كحرمة أمي عليَّ"، أو "أنت علي كظهر أختي"، فتحرم الزوجة على زوجها، ولا يجوز لهما أن يتعاشرا معاشرة الأزواج، إلا بعد أن يكفِّر الزوج عن يمينه، بحسب ما جاء في مجريات هذا الموقف.
ـ
التذكير بعلم الله سبحانه المحيط بكل نجوى، واستجابته لدعاء الشاكي الصادق إذا أخلص الدعاء، فقد قالت
خولة
رضي الله عنها كما جاء في رواية
ابن حبان
: (اللَّهُمَّ إِنِّي أشكو إليك، فما بَرِحَتْ حتَّى نزل جبْرَائيل بهؤلاء الْآيات).
ـ
حُسْن عشرة
خولة
رضي الله عنها لزوجها، وحرصها على مستقبل وتماسك أسرتها ـ رغم أن زوجها قد كبرت سِنّه وأساء إليها ـ، يظهر ذلك في قولها: (إن
أوْساً
ظَاهَرَ مني، وإنا إنِ افترقنا هلكنا). ومن حسن عشرتها لزوجها كذلك: احترام خصوصية زوجها وبيتها، ويظهر ذلك في وصف
عائشة
رضي الله عنها
لخولة
حينما جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قولها: (لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت تشكو زوجها، وما أسمع ما تقول)، ومع حسن عشرتها لزوجها وحرصها عليه فقد فقهت أن طاعة الزوج لها حدود، وهي طاعة في غير معصية لله عز وجل.
ـ
للمرأة مكانتها في الإسلام، وأن لها من الحقوق، وعليها من الواجبات، كالتي للرجل، إلا ما فضَّل الله به بعضهم على بعض، قال الله تعالى: {
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
} (البقرة:228)، فقد توجهت رضي الله عنها بشكواها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قضية أسرية، وسمع الله شكواها من فوق سبع سموات، وأنزل آيات قرآنية في أمرها، مبينًا المخرج من أزمتها.
فائدة:
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم بشراً، يصيبون ويخطئون، ويقع منهم ما يقع من البشر، لكنهم كانوا توابين رجاعين، وليس في ذكر موقف
خولة بنت ثعلبة
رضي الله عنها مع زوجها
أوس بن الصامت
رضي الله عنه وما شابهه من مواقف من باب الانتقاص من أحد الصحابة رضوان الله عليهم بحالٍ من الأحوال، كيف ذلك وقد جاءت النصوص النبوية القطعية بتحريم سبهم وتجريحهم أو الطعن في أحدٍ منهم، أو الحطِّ من قدْرِه، ومن تلك النصوص: ما رواه
البخاري
و
مسلم
في صحيحيهما من حديث
أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه قال: (
لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه
).
قال
ابن تيمية
في الصحابة وفضلهم: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ
} (الحشر:10) .. ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيِّر عن وجهه، والصحيح منه: هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يُغفر لهم من السيئات ما لا يُغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
إنهم خير القرون
) (
وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم
)، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه، أو غُفِرَ له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور لهم؟ .. ثم القدر الذي يُنْكَر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح. ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منَّ الله به عليهم من الفضائل، علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى".