يَعْمدُ أحَدُكُم إلى جَمْرةٍ من نار
الوصف: سعادة المسلم في اتباعه وطاعته للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الغاية التي يسعى المسلم ل
سعادة المسلم في اتباعه وطاعته للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الغاية التي يسعى المسلم لأجلها إنما هي تحصيل الهداية التي تصل به إلى السعادة في الدنيا وإلى دار السعادة في الآخرة، ولا يتم ذلك إلا بطاعته لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم وإن خالفت نفسَه وعقله، قال الله تعالى: {
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا
} (النور:54)، وقال: {
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
} (الحشر:7). قال
ابن كثير
: "أي مهما أمركم به فافعلوه ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر". وعن
أبي هريرة
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
كلُّ أمتي يدخلون الجنة إلا من أبَىَ، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبَىَ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبَىَ
) رواه
البخاري
.
وقد سجلت لنا السيرة النبوية الكثير من المواقف التي ظهر من خلالها مدى حرص الصحابة رضوان الله عليهم على طاعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإن خالفت النفس والعقل، ومنها: موقفه صلوات الله وسلامه عليه مع الصحابي الذي كان يلبس خاتماً من ذهب، فنزعه النبي صلى الله عليه وسلم من يده.
عن
عبد الله بن عباس
رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال:
يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده
،
فقيل للرّجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبدا، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه
مسلم
.
قال
ابن عثيمين
في شرحه لهذا الحديث: "فالعذاب كما يكون عاماً على جميع البدن قد يكون خاصاً ببعض أجزائه، وهو ما حصلت به المخالفة، ومن فوائد هذا الحديث أيضاً: بيان كمال صدق الصحابة في إيمانهم، فإن هذا الرجل لما قيل له خذ خاتمك انتفع به قال: لا آخذ خاتماً طرحه النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك من كمال إيمانه رضي الله عنه، ولو كان ضعيف الإيمان لأخذه وانتفع به ببيع أو بإعطائه أهله أو ما أشبه ذلك، ومن فوائد هذا الحديث أيضاً: أن الإنسان يستعمل الحكمة في تغيير المنكر، فهذا الرجل استعمل معه النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً من الشدة، لكنّ الأعرابي الذي بال في المسجد لم يستعمل معه النبي عليه الصلاة والسلام الشدة، ولعل ذلك لأن هذا الذي لبس خاتم الذهب علم النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان عالماً بالحكم والتحريم ولكنه متساهل، بخلاف الأعرابي فإنه كان جاهلاً لا يعرف، جاء ووجد هذه الفسحة في المسجد فجعل يبول يحسب نفسه أنه في البَر، ولما قام إليه الناس يزجرونه نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وكذلك استعمل النبي صلى الله عليه وسلم اللين مع
معاوية بن الحكم السلمي
حين تكلم في الصلاة، وكذلك مع الرجل الذي جامع زوجته في نهار رمضان فلكل مقام مقال".
تحريم الذهب على الرجال:
في هذا الموقف النبوي دلالة واضحة على أن نهي الرجال عن لبس الذهب نهي تحريم، وقد نقل
النووي
في شرح
مسلم
الإجماع على ذلك فقال: "أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء، وأجمعوا على تحريمه على الرجال، إلا ما حُكي عن
أبي بكر بن محمد
أنه أباحه، وعن بعض أنه مكروه لا حرام، وهذان النقلان باطلان، فقائلهما محجوج بهذه الأحاديث التي ذكرها
مسلم
مع إجماع من قبله على تحريمه". وعن
عليِّ بنِ أبي طالب
رضي الله عنه قال: (
إنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شماله، ثم قال: إنَّ هذيْن حرامٌ على ذكورِ أمتي
) رواه
أبو داود
وصححه
الألباني
.
لقد حث الصحابة الذين شاهدوا هذا الموقف الرجلَ على التقاط خاتمه وبينوا له جواز الانتفاع به، ومع ذلك لم يفعل، بل أقسم بالله على عدم أخذ الخاتم بقوله: (لا والله لا آخذه أبدا)، وكأنه أراد أن يمنعهم من محاولة إقناعه بذلك، قال
النووي
: "فيه المبالغة في امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتناب نهيه، وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضعيفة، ثم إن هذا الرجل إنما ترك الخاتم على سبيل الإباحة لمن أراد أخذه من الفقراء وغيرهم، وحينئذ يجوز أخذه لمن شاء، فإذا أخذه جاز تصرفه فيه، ولو كان صاحبه أخذه لم يحرم عليه الأخذ والتصرف فيه بالبيع وغيره، ولكن تورع عن أخذه وأراد الصدقة به على من يحتاج إليه".. فأين نحن من هذا الأدب والتعظيم الشديد لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم؟!!، ويتفرع على ذلك سوء أدب من يعلم شدة إنكار النبي صلّى الله عليه وسلّم على أمْرٍ ما ومع ذلك يصرّ عليه بحجج واهية.
المسلم العاقل هو الذي يعرف حقيقة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بالتسليم لأمره، وطاعته في كل ما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه، دون ريْبٍ أو تردد أو حرج، ولو كان أمره أو نهيه مخالفاً للنفس والعقل، قال الله تعالى: {
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
} (الأحزاب:36)، قال
السعدي
في تفسيره: " أي: لا ينبغي ولا يليق، ممن اتصف بالإيمان، إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سخط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة {
إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا
} من الأمور، وحتَّما به وألزما به {
أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
} أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة، أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجاباً بينه وبين أمر الله ورسوله". وقال
ابن القيم
في كتابه مدارج السالكين: "رأس الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره".