قُمْ أبا تراب، قم أبا تراب

الوصف: أبو تراب هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد


صورة القسم 1

أبو تراب هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد كان له ثلاث كُنَى مشهورة، الأولى: أبو الحسن : نسبة إلى ابنه الحسن أكبر أولاده. الثانية: أبو السِّبطين ( الحسن والحسين ) سِبْطَيِّ النبي صلى الله عليه وسلم، والسِّبْطُ هو ابن البنت، أما الكنية الثالثة: أبو تراب ، وكانت هذه الكُنيةُ أحبَّ الكُنى إلى عليٍّ رضي الله عنه، لأن الذي كنَّاه بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.. وسبب هذه التسمية والكنية أنه بعد زواج علي وفاطمة رضي الله عنهما، زار النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة في بيتها، وحدث موقف قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه لعلي رضي الله عنه: ( قم يا أبا تراب )، وهذا الموقف فيه الكثير من الفوائد التي ينبغي الاستفادة منها في علاقاتنا الأسرية.

روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب ، وإن كان ليفرح به إذا دُعِيَ بها، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة عليها السلام، فلم يجد عليّاَ في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ فقالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني فخرج فلم يقِل (ينم وسط النهار) عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شِقِّه (جانبه) فأصاب تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه وهو يقول: قم أبا تراب ، قم أبا تراب (أي: يا أبا تراب )). وفي رواية مسلم : (فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شِقِّه، فأصابه ترابٌ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قُمْ أبا التراب! قُمْ أبا التراب ! ).

قال الكرماني في "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري ": "قوله صلى الله عليه وسلم: ( ابن عمك ) أي زوجها علي رضي الله عنه. فإن قلتَ: لِمَ اختار هذه العبارة، ولم يقل أين زوجك؟ أو أين علي ؟! قلتُ: لعله صلى الله عليه وسلم فهم أنه جرى بينهما شئ فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة النسبية التي بينهما".
وقال العيني في كتاب "عمدة القاري شرح صحيح البخاري : "(ذكر ما يستنبط منه من الأحكام) الأول: فيه جواز دخول الوالد في بيت ولده بغير إذن زوجها. الثاني: فيه استعطاف الشخص على غيره بذكر ما بينهما من القرابة. الثالث: فيه إباحة النوم في المسجد لغير الفقراء ولغير الغريب.. الرابع: فيه الممازحة للغاضب بالتكنية بغير كنية إذا كان ذلك لا يغضبه بل يؤنسه. الخامس: فيه مدارة الصهر وتسلية أمره في غيابه. السادس: فيه جواز التكنية بغير الولد فإنه صلى الله عليه وسلم كنَّاه أبا تراب ".
وقال ابن حجر في فتح الباري: "ويستفاد من الحديث: جواز تكنية الشخص بأكثر من كنية، والتلقيب بلفظ الكنية وبما يشتق من حال الشخص، وأن اللقب إذا صدر من الكبير في حق الصغير تلقاه بالقبول ولو لم يكن لفظه لفظ مدح، وأن من حمل ذلك على التنقيص لا يلتفت إليه.. قال ابن بطال : وفيه أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طُبِعَ عليه البشر من الغضب، وقد يدعوه ذلك إلى الخروج من بيته ولا يعاب عليه. قلت: ويحتمل أن يكون سبب خروج عليّ خشية أن يبدو منه في حالة الغضب ما لا يليق بجناب فاطمة رضي الله عنهما، فحسم مادة الكلام بذلك إلى أن تسكن فورة الغضب من كل منهما".

لا حرج على الزوج إن خاف على نفسه أن يغلبه غضبه وانفعاله مع زوجته أن يخرج من البيت إلى أن يسكت عنه الغضب، ثم يرجع ليُرْضي زوجته أو ترضيه، وهذا ما فعله عليّ رضي الله عنه بذهابه ونومه في المسجد.. ومن حسن تصرف الزوجة مع ما يحدث بينها وبين زوجها ألا تذكره لأحد وتفشيه بين أهلها، وهذا ما فعلته فاطمة رضي الله عنها في عدم إفشائها أسرار بيتها ولو لأبيها النبي صلى الله عليه وسلم ..

وفي هذا الموقف النبوي مع فاطمة و علي رضي الله عنهما ظهرت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في عدم سؤاله ل فاطمة رضي الله عنها عما بينها وبين وزوجها، حتى لا تتسع دائرة الخلاف بينهما، وكذلك حسن خُلُقه وكرمه في تلطفه مع زوج ابنته مع وجود شيء بينهما، فمن حكمة الأب مع زوج ابنته أن ينظر إليه ويشعره أنه بزواجه من ابنته قد أصبح ابناً من أبنائه، وفرداً من أفراد الأسرة، فيكون صهره موضع إكرامه وتقديره، قال ابن حجر في فتح الباري في كلامه حول هذا الموقف النبوي: "وفيه كرم خلق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه توجه نحو عليّ ليترضَّاه، ومسح التراب عن ظهره ليبسطه، وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من حالته، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده، فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار، وترك معاتبتهم إبقاء لمودتهم".

لقد كانت عَلاقة النبي صلى الله عليه وسلم ببناته وأزواجهن عَلاقة قائمة على الحب والحنان، والاهتمام والمودة، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم مع بناته بعد زواجهن زيارتهن والسؤال عنهن، والتدخل للإصلاح بينهن وبين أزواجهن إن وُجِدَت مشكلة وعَلِم بها، بشكل يضمن إعادة الود والصفاء إلى جو الأسرة ـ إن رأى وكانت المصلحة في التدخل بينهما ـ ..