سباعية الذكر الرائعه

الوصف: المذكور واحد لكن الذكر مختلف، وما بين درجات الذاكرين تفاوت


صورة القسم 1

المذكور واحد لكن الذكر مختلف، وما بين درجات الذاكرين تفاوت وتباين كما بين السماء والأرض، فكيف يصل الذاكر إلى أعلى الدرجات ويسبق غيره إلى أسماها؟!

قال ابن الجوزي في كلام عُجِن لفظه بمسك معانيه ففاح نسيمه وعبق عبيره حتى تعلق به الرواة وسارت به الركبان:

«أول ما يحتاج إليه العازم على ذكر الله: التفرغ من الشواغل الظاهرة، ثم تسكين جوارح البدن عن الحركات الشاغلة، ثم قطع الفكر عن قلبه، ثم إشعار نفسه عظمة ما قد عزم عليه من ذكر ربه، ثم استفراغ الوسع في تجويد الذكر، ثم إطالة المجلس ما أمكنه إطالته، ثم التحفظ بالحالة التي استفادها قلبه من الرقة باجتناب الملهيات من حين يقوم عن الذكر إلى أن يعود إليه، فهذه الشرائط السبع من راعاها حق الرعاية بلغ من مراد الذاكرين أقصى الغاية»

وإليك تفصيل هذه الوصية النادرة واحدة واحدة:

أ- التفرغ عن الشواغل الظاهرة:

فلا تذكر الله في مواضع الضوضاء والزحام التي تشوش على القلب فيتشتت في أودية كثيرة يسترق السمع إليها، ويا حبذا لو اخترت أوقات السكون الطبيعي في جوف الليل حين يصغي القلب إلى الخير دون أن يعترض طريقه أحد، ومن هنا تفهم لماذا أُمرنا بذكر الله في الثلث الأخير من الليل، ونفهم لماذا كان الإسراء ليلاً، ونفهم سِرَّ نهي النبي (ص) أن يجهر أحدنا بصلاته على صلاة أخيه.

ومن الشواغل الظاهرة كذلك ما يشوِّش على البصر كذلك فيزيغ وراء ما يلفت الأعناق ويخلب العقول، وعلى المرء أن يجتنب الذكر في هذه الأماكن ما استطاع، يقتدي في ذلك برسول الله (ص)، فعنأنس قال: كان قِراملعائشة سترت به جانب بيتها فقال النبي (ص): «أميطي عنا قِرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي» 2.

والقِرام: ستر رقيق من صوف ذو ألوان ونقوش، وقد شغل النبي (ص) عن صلاته فأمر بإزالته على الفور، بل ولما صلى في خميصة أهداها له أبو جهم، والخميصة: ثوب يلفت البصر بما فيه من زخارف وعلامات، ردَّها وقال:

«اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم بن حذيفة، وأتوني بأنْبجَانِيَّتِه فإنها ألهتني آنفًا في صلاتي»

أي لما شغله الثوب عن حضور قلبه في الذكر رده على صاحبه، وقوله:«وأتوني بأنْبجَانيَّتِه»: هي ثوب بلا أعلام، وإنما طلبها من أبي جهم وهو من أهدى إليه الخميصة أولاً؛ لأن النبي (ص) رقيق المشاعر؛ لم يُرِد أن يُؤَثِّر ردُّ هديته عليه في قلبه.

قال الطيبي:

«فيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرًا في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية يعني فضلا عمن دونها»

ب- تسكين جوارح البدن عن الحركات الشاغلة:

فإن الجوارح سواقي إلى القلب، وأدنى حركة للجارحة تؤثر على القلب ولاشك سلبًا أو إيجابًا، فلتخشع وقت الذكر ولتكن ساكنًا سكون الطير، ولتقتد في ذلك بالصحابة -رضوان الله عليهم- الذين كانوا إذا سمعوا القرآن فكأن على رؤوسهم الطير، وكن كالليث إذا أراد الصيد؛ إذ ليس مع الجلبة قنص، ولا كالسكون معين على حضور القلب وتفريغ الباطن وتهيئته لتلقي بذور الخير وقطف ثمرات الذكر.

ج- قطع الفكر عن قلبه:

والمقصود به تهيؤ القلب -والقلب أولاً وقبل كل شيء- قبل الدخول على من يطلع على السرائر والأفئدة، فتستحي أن تدخل عليه وقلبك مشغول مع غيره، أو تنطق بكلمات الثناء عليه وقلبك يثني على سواه، أو تتعوَّذ خوفا من عذابه وقلبك خائف من عباده، أو تحمده وتشكره بلسانك والقلب جاحد ناكر لا يأمر الجوارح بشكر أو معروف.

ولقطع الفكر الدنيوي عن القلب طريقتان ذكرهما ابن القيم فاسمع كلماته دواء ناجعًا شافيًا معافيًا، وكأنها قميص يوسف أُلقي على أجفان يعقوب، فأبصر كل قلب كان قد عمي. يقول رحمه الله:

«من الذاكرين من يبتدئ بذكر اللسان وإن كان على غفلة، ثم لا يزال فيه حتى يحضر قلبه فيتواطآ على الذكر، ومنهم من لا يرى ذلك ولا يبتدئ على غفلة، بل يسكن حتى يحضر قلبه فيشرع في الذكر بقلبه، فإذا قوى استتبع لسانه فتواطآ جميعا، فالأول ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه، والثاني ينتقل من قلبه إلى لسانه من غير أن يخلو قلبه منه، بل يسكن أولاً حتى يحس بظهور الناطق فيه، فإذا أحس بذلك نطق قلبه، ثم انتقل النطق القلبي إلى الذكر اللساني، ثم يستغرق في ذلك حتى يجد كل شيء منه ذاكرًا، وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلب اللسان، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكر معانيه ومقاصده» 5.

ليس المطلوب أي ذكر إذن؛ بل ذكر خاص ينبع من القلب ليصل إلى الرب، ويكون معه جمع هَمٍّ، وتطليق دنيا، وخلوة ساعة، وسِحْر سَحَر، أخي.. إذا غاب قلبك تاهت رسائلك في الطريق، وإذا حضر وصلت أسرع من البرق.

د- إشعار نفسه عظمة ما قد عزم عليه من ذكر ربه:

لقد أورد ابن القيِّم في كتابه القيِّم الوابل الصيِّب من الكلم الطيِّب أكثر من مائة فائدة للذكر، من تقلب فيها قذف الله في قلبه نور التعظيم لما بادر إليه من ذكره، لكني اخترت منها اثنتين فحسب:

الأولى:قوله تعالى: (فَٱذۡكُرُونِىٓ أَذۡكُرۡكُمۡ) [البقرة: 152]

ولو لم يكن من فضائل الذكر غير هذه لكفتنا فضلاً وشرفًا وفاضت علينا، إن ذكر الله لنا إن ذكرناه هو ذكره لنا برحمته وفضله، وذكره لنا بتأييده ونصره، وذكره لنا بمغفرته وستره، وذكره لنا بتوفيقه وبِرِّه، وذكره لنا واحدًا واحدًا بأسمائنا في الملأ الأعلى، وفي المقابل إذا نسي أحد ذكر الله نسيه الله، ونسيان الله له: إهماله له، وطرده من رحمته، وحرمانه من بركته، فلما ترك ذكر الله تركه الله في عذاب الدنيا بتعسير أمره، وفي الآخرة بتعذيب روحه وبدنه، فما أقبح نسيانك لذكر من لا يغفل لحظة واحدة عن بِرِّك.

والثانية:قوله تعالى: (وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَڪۡبَرُ‌ۗ) [العنكبوت: 45]

ومعنى أكبر أي ذكره لكم أكبر من ذكركم إياه.

ومن معاني أكبر أي أكبر من كل عبادة أخرى شرفًا وقدرًا وقربًا إلى الله.

ومن معانيها أي أكبر مما تتصورون أو يخطر ببالكم أو تحلمون.

ومن معانيها أي أكبر من دنياكم التي عليها تنافسون بكل ما عليها من نعيم لأنه يورث النعيم في الآخرة ولا مقارنة.

ومن معانيها أي أكبر من أن تصمد أمام الذكر أية فاحشة أو منكر، فالذكر إذا وقع سحق ومحق كل خطيئة ومعصية، ولأنه أكبر فما حسن عمر أحد ولا تزيَّنت حياته بأفضل من ذكره لله وتسبيحه وتهليله، فعن عبد الله بن شداد أن نفرا من بني عذرة ثلاثة أتوا النبي (ص) فأسلموا. قال: فقال النبي (ص): من يكفيهم؟ قالطلحة: أنا. قال: فكانوا عند طلحة، فبعث النبي (ص) بعثا، فخرج فيه أحدهم فاستشهد، ثم بعث بعثا فخرج فيه آخر فاستشهد، ثم مات الثالث على فراشه. قال طلحة: فرأيتُ هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة، فرأيتُ الميت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استشهد أخيرًا يليه، ورأيت أولهم آخرهم. قال: فداخلني من ذلك فأتيت النبي (ص) فذكرت ذلك له، فقال: «وما أنكرت من ذلك؛ ليس أحد أفضل عند الله -عز وجل- من مؤمن يُعمَّر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله»

هــ- استفراغ الوسع في تجويد الذكر:

إن تحسين الصوت بالذكر، وإعطاء كل حرف حقه، والتغني به، وقراءته بحزن، كل هذا يجعل للذكر طعمًا آخر وأثرًا أوكد، ومن هنا تفهم لماذا أحب رسول الله (ص) أن يسمع القرآن من غيره، وهو عبد الله بن مسعود صاحب الصوت الندي الشجي الذي أبكى رسول الله (ص) 7 حين قرأ عليه صدر سورة النساء؛ لذا مدحه النبي (ص) بقوله: «من أحب أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أمِّ عبد» 8.

و- إطالة المجلس ما أمكنه إطالته:

قلما تجتمع الجودة مع السرعة، وجرِّب أن تعطي اثنين كتابين، وتطلب إليهما أن ينسخا بيديهما عشر صفحات كلٌّ على حدة؛ أحدهما في خمس دقائق والآخر في ساعة من الزمن، وقارن بين النسختين، وستجد ولا شك أن صاحب الزمن الأطول كتابته أجود وخطه أجمل ولو كان سيئ الخط في الأصل، لأن الوقت في صالحه، والآخر متعجِّل ولذا خطه غير مقروء ولا يكاد يُفهم.

فافهم ما وراء المثل، واعلم أن مجالس البشر تختلف عن مجالس رب البشر؛ مجالس البشر إذا طال فيها المجلس كان للشيطان فيها نصيب، ومجالس رب البشر كلما طالت كلما ابتعد الشيطان عنها ولم يعد له فيها أدنى نصيب.

ز- التحفظ بالحالة التي استفادها قلبه:

وذلك بصيانة النفس بعد الفراغ من مجالس الذِّكر عن الوقوع في الحرام، والإغراق في اللهو، والإسراف في المباح، وحتى في حالات عدم الذكر عليك استحضار نية التقوي بالمباح على ذكرالله وطاعته، حتى يحين موعد الذكر القادم، فيكون حال روحك إما أن تتصل أو تتهيأ كي تتصل.