إكرام المَيِّت بالدعاء
الوصف: الحمد لله الحليمِ الغفَّار، العزيزِ الجبار، والصلاةُ والسلام على النبيِّ المُختار، وآلِه وصحبِه ما تعاقَبَ الليل والنهار. أمَّا بعد: في الموت عِبرةٌ للمعتبرين، وتنبيهٌ للغافلين، وإيقاظٌ للنائمين، وفِكرةٌ للمُتنكِّرين؛ فبينما الإنسانُ في قِيامٍ وقُعود، ونُزولٍ وصعود، وذَهَبَ هذا وقَدِمَ هذا، وخُذْ وهاتْ، إذْ جاءه أمرٌ إلهي، وحادِثٌ سماوي، وحُكْمٌ رباني؛ فسَكَنَ في حركتِه، وأطفأَ شُعْلَتَه، وتَرَكَه كالخشبة المُلقاة، إنْ صِيحَ به لم يَسْمَع، وإن دُعِيَ لم يُجِب، ففي هذه اللَّحظة - الفاصلة بين الدنيا والآخرة - هو أحوجُ ما يكون إلى الدعاء.
إكرام المَيِّت بالدعاء
الحمد لله الحليمِ الغفَّار، العزيزِ الجبار، والصلاةُ والسلام على النبيِّ المُختار، وآلِه وصحبِه ما تعاقَبَ الليل والنهار. أمَّا بعد: في الموت عِبرةٌ للمعتبرين، وتنبيهٌ للغافلين، وإيقاظٌ للنائمين، وفِكرةٌ للمُتنكِّرين؛ فبينما الإنسانُ في قِيامٍ وقُعود، ونُزولٍ وصعود، وذَهَبَ هذا وقَدِمَ هذا، وخُذْ وهاتْ، إذْ جاءه أمرٌ إلهي، وحادِثٌ سماوي، وحُكْمٌ رباني؛ فسَكَنَ في حركتِه، وأطفأَ شُعْلَتَه، وتَرَكَه كالخشبة المُلقاة، إنْ صِيحَ به لم يَسْمَع، وإن دُعِيَ لم يُجِب، ففي هذه اللَّحظة - الفاصلة بين الدنيا والآخرة - هو أحوجُ ما يكون إلى الدعاء.
♦ فيُستحب الدعاء للميت عند إغماضِ عينيه، وخُروج رُوحِه من جسدِه، فعن أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها – قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ». فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ: «لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ؛ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ». ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ: اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ» رواه مسلم.
فهذه دعواتٌ خَمْسٌ تَزِنُ الدنيا وما عليها، فيُستحب تغميضُ الميت بعد التَّحقُّق من الموت، ويُنهى عن الضَّجيج والنِّياحة حال الموت، ويجبُ التَّسليمُ والرضا بقدر الله تعالى، ويُستحب الدعاءُ للميت بما ينفعه في قبره، ويوم القيامة، والدعاءُ لأهلِه بأنْ يخلف اللهُ عليه، وأنَّ الملائكة تُؤمِّن على ذلك، فلا يقول أهلُه إلاَّ خيرًا.
♦ ويَتأكَّد الدُّعاء للميِّت في الصَّلاة عليه؛ فعن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ: اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ». قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ. رواه مسلم.
فمعنى «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ»: المغفرة هي مَحْوُ الذنوب، وسَتْرُها، وبها تحصل النجاة. ومعنى «وَارْحَمْهُ»: الرحمة أعلى من المغفرة؛ لأن بها يحصل المطلوب، وهو الجنة، وهذا دعاءٌ للميت بأن يُسبِغَ اللهُ عليه رحمتَه الواسعة. ومعنى «وَعَافِهِ»: أي مما يقع له من شِدَّةِ سؤالِ المَلَكَين، ومن عذاب القبر، ويُبعِدُه من كُلِّ مكروه، ويُسقِط عنه ذنوبَه وخطاياه. ومعنى «وَاعْفُ عَنْهُ»: أي بالتجاوز عما يقع منه من تقصير في جنبك. ومعنى «وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ»: النُّزُل هو ما يُقدَّمُ للضَّيف، وسَمَّاه نُزُلًا؛ لأنَّ الرَّاحِلَ عن الدنيا قادِمٌ على دارٍ جديدة، فالنُّزُل هو تجهيز المكان للضَّيف؛ إكرامًا له. ومعنى «وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ»: أي أفْسِحْ له في قبره مُدَّ البصر، وافتحْ له بابًا إلى الجنة.
ثم قال: «وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ»: أي اغسِلْه من آثار الذنوب والمعاصي، والتفريطِ الذي وقع منه في حياته، والغَسْل: هو التَّنقية والتَّطهير من الأدرانِ والأوساخِ، والأقذارِ المادية والمعنوية. فإنْ قال قائِلٌ: إنَّ الغَسْل بالماء السَّاخِن أنْقَى، فَلِمَ لا يُستعمل هنا؟ فيقال: إنَّ المراد هو غَسْلُه من آثار الذنوب، وهي مُحْرِقَة، فيكون المُضادُّ لها الماء والبرودة.
ثم قال: «وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ»: التَّنْقية هي تنظيفُ الإنسانِ من ذنوبه وخطاياه، كما يُفعل ذلك بالثوب الذي دَنَّسَتْه الأدناس والأقذار، وإذا كان الثوبُ بلونٍ أبيضَ فتَظْهر فيه الأقذار أوضح ما يكون، خِلافًا لغيره من الألوان.
ثم قال: «وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ »: أدخله الجنةَ، التي هي دار السلام، لأنه انتقل من دار الدنيا، إلى دار البرزخ؛ ليكون مُنَعَّمًا في قبره. فدارُ الدنيا دارُ مِحَنٍ، وأذىً، وكَدَر. ثم قال: «وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ»: أي بِصُحْبَةِ أهلِ الجِنان؛ حيث لا غل، لا حسد. والأهلُ هنا: هم المصاحِبون والمُلازِمون له في حياته.
ثم قال: «وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ»: وخَص َّالزوجةَ هنا - رغم أنها داخِلَةٌ في معنى الأهل؛ لِمَا جُبِلَ الرجلُ من محبةٍ غريزيةٍ لها، وهذا التَّبديل شامل للأعيان والأوصاف. والمقصود بذلك: الحورُ العِين، وزوجُه التي كانت في الدنيا فتكون خيرًا من حالها السابقة صِفَةً وجَمالًا وأخلاقًا، وغير ذلك.
أيها المسلمون.. ومن الأدعية الثابتة في الصلاة على الميت؛ ما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ: اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا. اللَّهُمَّ: مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلاَمِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِيمَانِ. اللَّهُمَّ: لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ [أي: أجْرَ المصيبة، والصَّلاةِ عليه، وشُهودِ جنازته]، وَلاَ تُضِلَّنَا بَعْدَهُ [أي: لا تُضلِّنا عن ديننا بعد موته؛ لأنَّ الحي لا تُؤمَنُ عليه الفتنة]» صحيح - رواه ابن ماجه.
فقد حَثَّ الإسلامُ على الدعاء للأحياء والأموات؛ لأنَّ الكل مُفْتقِرٌ إلى الله تعالى. والمقصود من هذه القرائن الأربع: الشمول والاستيعاب، كأنه قيل: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات كلِّهم أجمعين. ولو قال: اللهم اغفر لِحَيِّنا ومَيِّتِنا؛ لَشَمِلَ الجميعَ، ولكن مقام الدعاء ينبغي فيه البَسْط والتَّفْصيل؛ لأنَّ ذِكْرَ كلِّ جُملةٍ من الدعاء عِبادة، وإذا كرر الدعاء زاد الثواب والأجر، وفيه دليل على محبة الداعي لربه، وشِدَّةِ افتقاره له؛ لأن المرء إذا أحب أحدًا أحبَّ طُولَ مناجاته.
ومَنْ دعا بهذا الدعاء في صلاة الجنازة أو غيرها؛ فله بكلِّ واحدٍ من المسلمين والمسلمات - الأحياء منهم والأموات - حسنة، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ؛ كَتَبَ الله لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ حَسَنَةً» صحيح - رواه الطبراني.
الخطبة الثانية
الحمد لله... عباد الله.. ومن الأدعية الثابتة في الصلاة على الميت؛ ما ورد عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ - رضي الله عنه - قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ: إِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ فِي ذِمَّتِكَ [أي: في أمانَتِك وعَهْدِك وكَفالَتِك]، وَحَبْلِ جِوَارِكَ [أي: في حِفْظِك؛ لأنه أصبحَ جارًا لك]، فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَقِّ [أي: بما وعَدْتَ بها في كتابك وعلى ألسنة رسلك: بأنك لا تُعَذِّبُ مَنْ مات مُوَحِّدًا]، فَاغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» صحيح - رواه ابن ماجه. وفي الحديث: استحبابُ الثناءِ على الله تعالى عند الدعاء للميت؛ بأن يُكفى من عذاب القبر، وعذاب النار. والدعاءُ خَيرُ ما يُكرَمُ به المرءُ بعد موته. فتأمَّلْ كيف حرص الصحابة - رضي الله عنه - على نقل العلم، وتبليغه للأمة جميعًا. واختلاف ألفاظ الأحاديث محمول على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو لِمَيِّتٍ بدعاء، ولآخَرَ بآخَر، حسب ما يقتضيه الحال.
ومن الدعاء للميت أيضًا؛ قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ: عَبْدُكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ؛ احْتَاجَ إِلَى رَحْمَتِكَ، وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، وَلاَ تَحْرِمْنَا أجْرَهُ، وَلاَ تَفْتِنَّا بَعدَهُ» صحيح - رواه الحاكم وابن حبان. فالله تعالى لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة؛ لأن له الغِنَى المُطْلَق، قال سبحانه: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 147]. ودل الحديث على أنَّ المُصلِّي له أنْ يُشْرِكَ نفسَه في الدعاء بما شاء؛ لقوله: «وَلاَ تَحْرِمْنَا أجْرَهُ، وَلاَ تَفْتِنَّا بَعدَهُ».
♦ ويستحب الدعاء للميت أيضًا بعد دفنه؛ فعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ؛ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ [أي: اطلبوا له مِنَ اللهِ أنْ يُثَبِّتَ لِسانَه، وجَنانَه لِجوابِ المَلَكَين]؛ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ» صحيح - رواه أبو داود.
قال ابن تيمية - رحمه الله: (القيام على قبره من جِنسِ الصلاةِ عليه). وقال ابن عثيمين - رحمه الله: (يُستحبُّ إذا دُفِنَ الميتُ أنْ يقف الإنسانُ على قبره، ويقول: اللهم ثبته، اللهم ثبته، اللهم ثبته. اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، اللهم اغفر له؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سلَّم سلَّم ثلاثًا، وإذا دعا دعا ثلاثًا).
ومن فوائد الحديث:
مشروعية الوقوف بعد الدَّفن، والاجتهاد للميت بالدعاء في هذا الموقف العصيب. وفيه: كمال رحمة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأمته. وفيه: الإحسان إلى الميت، بما ينفعه في قبره، ويوم معاده. وفيه: أنَّ رِباطَ الأُخُوَّة في الله مُمْتدٌّ في الدنيا، وبعد الموت، وإلى يوم القيامة؛ بتشفيع أهل الإيمان بعضهم في بعض.
عباد الله.. إن تنوع الأدعية والأذكار الواردة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرجعها جميعًا إلى الثناء على الله تعالى بما هو أهله، وطلب الرحمة منه للميت، وفيها إظهار العبودية، والافتقار لله وحده في جميع الأحوال؛ قبل الموت، وبعد الموت مِمَّنْ يدعون له، فالكلُّ لا غِنَى له عن ربِّه طرفة عين؛ فهم محتاجون إليه في جلب المنافع، ودفع المضار في الدنيا والآخرة. أسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرش العظيم؛ أنْ يُثَبِّتَني وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.