بابالاستغفار
الوصف: الحمد لله العزيز الغفار، أحمده سبحانه وأستغفره وهو الرحيم الغفور، وأصلي وأسلم على إمام المستغفرين، وقدوة التائبين، محمد بن عبدالله النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين؛ أما بعد:
باب الاستغفار
الحمد لله العزيز الغفار، أحمده سبحانه وأستغفره وهو الرحيم الغفور، وأصلي وأسلم على إمام المستغفرين، وقدوة التائبين، محمد بن عبدالله النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله.
عباد الله، لقد وصف الله عز وجل الإنسان - وهو أعلم بخلقه - فقال: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، ومن مظاهر ضعف الإنسان انسياقه وراء المُغرِيَاتِ وسقوطه في أسْرِ الشهوات والملذات، فيعصي ربه عز وجل بانتهاك ما حرمه عليه، وتركِ ما أمره به.
والناس بعد الوقوع في المعصية صِنفان: صنف يستمر في غَيِّهِ، ويواصل ممارسة معصيته، ولا يبالي بغضب ربه عليه، وصنف ينتبه إلى نفسه، ويدرك خطورة ما صدر منه، ويندم على فعله، وهؤلاء يسَّر الله عز وجل لهم سبيل العودة إليه والأوْبَة إلى كَنَفِهِ، من خلال باب الاستغفار؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].
ومهما كان الذنب الذي ارتكبه العبد كبيرًا، فلا ينبغي أن يقنطَ أو ييأسَ من رحمة الله؛ لأن الله يريد من عبده أن يُنيبَ إليه ويستحييَ منه، ويشعر بخطئه في حقه، فإذا حدث منه ذلك، لم يُبالِ الله عز وجل بكبر ذنبه أو صغره، فيغفر له ويتجاوز عنه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
والجميع بحاجة إلى الاستغفار، ومع أن العصاة والمذنبين هم أكثر الناس حاجة إلى الاستغفار، إلا أن كل مسلم مَعنيٌّ بالاستغفار، فلا أحدَ يستطيع أن يحقق الكمال في عبادة الله، فالمصلِّي والحاجُّ بعد العبادة يستغفر، فالتقصير وارد في حق كل مسلم، والتخلص من تَبِعَاتِهِ لا يكون إلا بطلب العفو والتجاوز من الله، كيف لا، والله تعالى يأمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالاستغفار: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]، يُؤمر بالاستغفار، وهو أكمل الخلق وأتقاهم وأخشاهم لله، فكيف بمن دونه.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم دائم الاستغفار؛ فعن عليٍّ رضي الله عنه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللهم اغفر لي ما قدمتُ وما أخَّرت، وما أسْرَرْتُ وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت))؛ [رواه مسلم]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي))؛ [متفق عليه]، وعن الأغر المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه لَيُغانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرةٍ))؛ [رواه مسلم].
فواجب المسلم اللجوء إلى الاستغفار، وطلب الصفح والعفو من الله عز وجل، أخطأ أم لم يخطئ، صدر منه معصية أو تقصير أو لم يصدر؛ لأن الاستغفار بحدِّ ذاته عبادة، وباب من أبواب الخير، ومظهر من مظاهر الذكر والمناجاة، وفيه الأجر الوفير في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ [هود: 3]، وقال على لسان هود مخاطبًا قومه: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [هود: 52].
الاستغفار استجابة لأمر الله تعالى، واقتداء بالنبيين والصالحين، وبابٌ رَحِبٌ لتطهير القلوب وإصلاح العيوب، ومن أسباب الرزق والتمتع بالصحة والقوة.
الاستغفار سبب في مغفرة الذنوب ومحوِ الخطايا، ويدفع العقوبة والعذاب قبل وقوعهما؛ يُروى عن لقمان أنه قال يوصي ابنه: "يا بني، إن لله ساعاتٍ لا يردُّ فيها سائلًا؛ فأكْثِرْ من الاستغفار".
وتكثر الهموم على المرء، ويضيق صدره، ولا ينطلق لسانه، وتضيق عليه الأرض بما رحُبت، وقد يغفل قلبه وعقله عن المخرج والفرج، وقد أرشد الله تعالى إلى الدواء من هذا الداء: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من جلس في مجلس فكثُر فيه لَغَطُهُ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غُفر له ما كان في مجلسه ذلك)).
فاللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
فالاستغفار هو مراجعة للنفس على مستوى الفرد والجماعة؛ من أجل تصويب المسار، وحسن التسديد لِما ينفع البلاد والعباد، وكم نحن اليوم بحاجة إلى وقفات كثيرة، نراجع فيها أنفسنا ببصيرةِ مَن يتَّهم نفسه قبل غيره، ويعترف بذنبه وتقصيره، ويجدد العهد مع الله، فهو القادر على كل شيء، والقادر على إصلاح الحال والشأن.
ومن حُسْنِ إسلام المرء ألَّا يترك أبواب الرحمة والمغفرة تضيع منه هكذا هباء منثورًا، بل لا بد له من اغتنام الفرص والتقرب إلى الله تعالى بما طلبه منه، وبما افترضه عليه.