دعوةُ السَّحَر
الوصف: إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
دعوةُ السَّحَر
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ... ﴾ [النساء: 1].
أيها المؤمنون!
لله – سبحانه – أن يختار ما يشاء من خلقه؛ أشخاصًا، وأوقاتًا، وأماكن، وأحوالًا، ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ﴾ [القصص: 68]. وذلك الاختيار الرباني اصطفاء بعلم وحكمة؛ وذاك ما يجعل المؤمن يحرص على ما يختاره الله ويصطفيه، ويهتمّ له أيما اهتمام؛ بحثًا، وتعظيمًا، واستغلالًا.
ومما اختاره الله من الأوقات اليومية وخصه بمزايا انفرد بها عما سواه وقتُ السَّحَرِ حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ إذ جعله الله – جل وعلا – وقت نزوله كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا نزولًا يليق به – سبحانه وتعالى -، باسطًا توبتَه للمذنبين، وعارضًا مغفرتَه للمستغفرين، وفاتحًا خزائنَه للسائلين، وعارضًا شفاءَه للسقيمين.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مضى شطر الليل، أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل يُعطَى؟ هل من داع يُستجاب له؟ هل من مستغفر يُغفر له؟ حتى ينفجر الصبح"؛ رواه مسلم، وفي رواية النسائي: " أَلا من دَاع؛ فيستجاب لَهُ؟ ألا من مَرِيض يستشفي؛ فيشفى؟ ألا من مذنب يسْتَغْفر؟ ".
أيها المسلمون!
هدأةُ السَّحر وسكونه، وغفلةُ الخلق فيه بالإخلاد للنوم والتلذذِ بالتقلب على الفرش، ومجاهدةُ النفس في تلك الرغبة، وكونُ السَّحر مبتدأَ انتشار الأنوار مزايا أكسبته شرفَ اختيار الله له وقتًا لنزوله إلى السماء الدنيا –كما قال أهل العلم-؛ فكان وقتًا شريفًا؛ أقربَ ما يكون إلى الإجابة والإعطاء والمغفرة، وان كان الله – تعالى - يستجيب دعوة الداعين، ويعطي سؤال السائلين، ويغفر ذنوب المستغفرين في جميع الأوقات.
وَقُلْ: يَنْزِلُ الْجَبَّارُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ
بِلَا كَيْفٍ جَلَّ الْوَاحِدُ الْمُتَمَدَّحُ
إِلَى طَبَقِ الدُّنْيَا يَمُنُّ بِفَضْلِهِ
فَتُفْرَجُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُفْتَحُ
يَقُولُ: أَلَا مُسْتَغْفِرٌ يَلْقَى غَافِرًا
وَمُسْتَمْنِحٌ خَيْرًا وَرِزْقًا فَيُمْنَحُ
|
أيها المؤمنون!
في السَّحر أقرب ما يكون الرب من عبده، سأل عمرو بنُ عبسة –رضي الله عنه-رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل من ساعة أقرب من الأخرى أو هل من ساعة يبتغى ذكرها؟ قال: «نعم، إن أقرب ما يكون الرب -عز وجل- من العبد جوفَ الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله -عز وجل- في تلك الساعة فكن؛ فإن الصلاة محضورة مشهودة إلى طلوع الشمس "؛ رواه النسائي وصححه الألباني.
ومن ثمار ذلك القرب أنْ كان دعاء السَّحر مسموعًا مجابًا، سُئِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أي الدعاء أسمع؟ قال: " جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات "؛ رواه الترمذي وحسنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " جوفُ الليلِ أجوبُه دعوةً "؛ رواه أحمد، وصححه أحمد شاكر.
عباد الله!
إن لدعوة الأسحار قدْرًا عند أهل الإيمان، ولذةً فاقت لذة الكرى على وثير الفراش، لذةً جعلت المتقين يثورون من مراقدهم لمناجاة ربهم، يستقيلونه العثار، ويستمنحونه العطاء، ويبثّون له الهمّ الذي أرهقهم، كما قال الله –تعالى-: ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 18]. قالت عائشة – رضي الله عنها-: " كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر "؛ رواه البخاري.
قال الإمام ابن عبدالبر: " لم يزل الصالحون يرغبون في الدعاء والاستغفار بالأسحار لهذا الحديث (حديث: ينزل ربنا حين يبقى الثلث الآخر إلى السماء...) وما كان مثله ولقوله تعالى: ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17].
روى محارب بن دثار عن عمه قال: كنت آتي المسجد في السحر، فأمرّ بدار عبد الله ابن مسعود، فأسمعه يقول: اللهم أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا السحر؛ فاغفر لي، فلقيت بن مسعود، فقلت له: كلمات سمعتك تقولهن في السحر، فقال: إن يعقوب أخّر بنيه إلى السحر حين قال لهم: ﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ﴾ [يوسف: 98]". قال لقمان الحكيم لابنه: " يا بني، لا تكن أعجز من هذا الديك؛ يصوّت من الأسحار وأنت نائم على فراشك ". قال موسى بن عيسى المُقرِئ: "مضيتُ إلى أبي عبدالله أحمد بن حنبل، فقلتُ له: يا أبا عبدالله، قد ركبني دينٌ وأنا مغموم به، قال: عليك بالسَّحَر ".
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
أيها المؤمنون!
إن اللهج بالاستغفار أعظم ما يدعو به المؤمن في مختتم سدفة الأسحار؛ فذاك دأب المتقين وراثي الجنان، كما قال الله –تعالى-: ﴿ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 15 – 17]، قال الحسن البصري: " مدّوا الصلاة إلى الأسحار، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار". قال أنس بن مالك –رضي الله عنه-: " كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السَّحر سبعين مرة ". وقال نافع مولى ابن عمر – رضي الله عنهما-: كان ابن عمر -رضي الله عنهما - يحيي الليل، ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصلاة، فإذا قلت: نعم، قعد وأخذ يستغفر الله، ويدعو حتى يصبح. ذكر الحافظ عبدالحق الإشبيلي أن أحد الصالحين رُئي في المنام في الجنة، فقيل له: بم نلت هذا؟ قال: بذلك التضرع والاستغاثة في الأسحار.
وَاذْكُرْ وقُوفَكَ في المَعَادِ وَأَنْتَ في
كَرْب الحِسَابِ وَأَنْتَ عَبْدًا مُفْْرَدًا
سَوَّفْتَ حَتَّى ضَاعَ عُمْرُكَ بَاطِلًا
وَأَطَعْتَ شَيْطَانَ الغِوَايَةِ وَالعِدَا
فَانْهَضْ وَتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ وَقُمْ إلى
بَابِ الكَرِيْمِ وَلُذْ بِهِ مَتَفَرِّدًا
وَادْعُوهُ في الأَسْحَارِ دَعْوَةَ مُذْنِبٍ
وَاعْزِمْ وَتُبْ وَاحْذَرْ تَكُنْ مُتَرَددًا
وَاضْرَعْ وَقُلْ يَا رَبِّ جِئْتُكَ أَرْتجي
عَفْوًا وَمَغْفِرَةً بِهَا كَيْ أَسْعَدَا
فَلَعَلَّ رَحْمَتَهُ تعُم فإِنَّهَا
تَسَعُ العِبَادَ وَمَنْ بَغَى وَمَن اعْتَدى
|
عباد الله!
إن دعوة السحر غنيمة ربانية جزلاء؛ لا ينبغي الزهد فيها ولو لبضع دقائق؛ فهي – لعمر الله – أرجى موطن تقضى فيه حاجات الدنيا والآخرة، قال بعض أهل العلم: " ليس بفقيه من كان له إلى الله حاجة، فنام عنها في الأسحار".