دعاءُ المُصلِّي

الوصف: إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.


صورة القسم 1

دعاءُ المُصلِّي


إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.

 

أما بعدُ:

﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ... ﴾ [النساء: 1].

 

أيَّها المؤمنون!

للدعاءِ عند الله -جل وعلا- شأنٌ عليٌّ؛ فهو أكرمُ شيءٍ عليه، كما قال النبيُ صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاء "؛ رواه أحمدُ وصحَّحه الحاكمُ.

 

ومِن جليلِ كرمِه على اللهِ حياؤُه –سبحانَه- مِن عبدِه إذا دعاه أن يردَّه خائبًا، كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ رَبَّكُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَييٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا "؛ رواه أبو داودَ وصحَّحه ابنُ حبانَ.

 

ولئِنْ كان هذا قدْرَ الدعاءِ بعامّةٍ فإن لدعاءِ الصلاةِ مزيدَ شرفٍ وحظوةٍ؛ إذ هو أعظمُ الدعاءِ، وأرجاه قَبولًا، وأسرعَه تحقَّقًا؛ وذلك أن مَقَامَ الصلاةِ أقربُ مقاماتِ العبدِ مِن ربِّه؛ كما قالَ اللهُ - تعالى -: ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 19]، وقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " أقربُ ما يكونُ العبدُ مِن ربِّه وهو ساجدٌ؛ فأكثروا الدعاءَ "؛ رواه مسلمٌ. ومِن ثمّ كانت الصلاةُ موطنَ مناجاةِ العبدِ ربَّه، بل قال بعضُ أهلِ العلمِ: هي الموطنُ الوحيدُ لمناجاةِ العبدِ ربَّه. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ المؤمنَ إذا كان في الصلاةِ، فإنّما يناجي ربَّه "؛ رواه البخاريُ. والمناجاةُ مسارَرَةٌ خفيّةٌ، وخطابٌ شريفٌ بين العبدِ المملوكِ والملكِ العظيمِ؛ يَستشعرُ مِن خِلالها المصليْ عَظَمةَ الموقفِ الذي شرّفَه اللهُ بالوقوفِ فيه، وقُرْبَ ربِّه منه قُربًا يَليقُ بجلالِه وعظيمِ سلطانِه، ومقامُ المناجاةِ أرفعُ درجاتِ العبدِ كما قال أهلُ العلمِ. ودعاءُ الصلاةِ قد حوى خيري الأعمالِ وأحبَّها إلى الله -سبحانه-: الدعاءَ والصلاةَ؛ فما ظنَّكم بقدْرِه عند اللهِ - تعالى -؟! قال النبيُ صلى الله عليه وسلم: " اعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاة "؛ رواه أحمدُ وصحَّحه ابنُ حبان.

 

والصلاةُ أعظمُ مواطنِ الذُّلِ والخضوعِ للهِ -جلَّ وعلا- وإظهارِ الافتقارِ إليه؛ قولًا وفعلًا وحالًا، كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ في ركوعِه مستشعِرًا ذلك الخضوعَ والافتقارَ في تفاصيلِ أجزاءِ بدنِه: "اللهمَّ لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، خَشَعَ لك سمعي، وبصري، ومُخِّي، وعَظمي، وعَصَبي"؛ رواه مسلم. ودعاءُ الافتقارِ والخُضوعِ والانكسارِ لا يَكادُ يُردُّ.

 

والصلاةُ أشرفُ مواطنِ الثناءِ على اللهِ -سبحانه-، والدعاءُ بعد الثناءِ لا يَخِيبُ، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " قال اللهُ –تعالى-: قَسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَين، ولِعبدي ما سألَ، فإذا قال العبدُ: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، قال اللهُ -تعالى-: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، قال اللهُ -تعالى-: أَثْنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، قال: مَجَّدَني عبدي - وقال مَرَّةً: فوّضَ إليَّ عبدي -، فإذا قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ قال: هذا بيني وبين عبدي، ولِعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ قال: هذا لِعبدي، ولِعبدي ما سألَ "؛ رواه مسلمٌ.

 

وجاءت أمُّ سُلَيمٍ -رضي اللهُ عنها- إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسولَ اللهِ، علِّمني كلماتٍ أدعو بهنَّ في صلاتي، قال: " سبِّحي اللهَ عَشْرًا، واحمديه عشرًا، وكبِّريه عشرًا، ثم سَليه حاجتَك، يقول: نعمْ، نعمْ "؛ رواه النسائيُّ وحسَّنه الحافظُ عبدُالغنيِّ المقدسيُّ. وبالإلحاحِ على اللهِ – سبحانه- بالدعاءِ ترتفعُ درجةُ العبدِ عند ربِّه، وتزدادُ محبتُه له، وتكونُ إجابةُ دعائِه أقربَ ما يكونُ؛ إذ في تكريرِ العبدِ الدعاءَ إظهارُ لموضعِ الفقرِ والحاجةِ إلى اللهِ والتذلّلِ له والخضوعِ؛ ولذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دَعا دَعا ثلاثًا ( رواه مسلمٌ )، قال الأوزاعيُّ: " كان يقال: أفضلُ الدعاءِ الإلحاحُ على اللهِ -تباركَ وتعالى-، والتضرعُ إليه ". والصلاةُ موطنُ إلحاحٍ على اللهِ بالدعاءِ؛ إذ فيها ستةُ مواطنٍ لم يكنِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتركُ الدعاءَ فيها، قال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ: " مُحَصِّلُ ما ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم من المواضعِ التي كان يدعو فيها داخلَ الصلاة ستةُ مواطنٍ:

الأولُ: عَقِبَ تكبيرةِ الإحرامِ، ففيه حديثُ أبي هريرةَ في الصحيحين: "اللهمَّ باعدْ بيني وبين خطاياي" الحديثَ.

 

الثاني: في الاعتدالِ، ففيه حديثُ ابنِ أبي أوفى عند مسلمٍ أنه كان يقولُ بعد قولِه: " مِن شيءٍ بَعْدُ": " اللهمَّ طهِّرني بالثلجِ والبَرَدِ والماءِ الباردِ".

 

الثالثُ: في الركوعِ، وفيه حديثُ عائشةَ: "كان يُكثرُ أن يقولَ في ركوعِه وسجودِه: سبحانك اللهمَّ ربَّنا وبحمدِك، اللهمَّ اغفرْ لي " أخرجاه.

 

الرابعُ: في السجودِ، وهو أكثرُ ما كان يدعو فيه، وقد أَمَرَ به فيه، الخامسُ: بين السجدتين "اللهمَّ اغفرْ لي"، السادسُ: في التشهدِ... وكان -أيضًا- يدعو في القُنوتِ، وفي حالِ القراءةِ إذا مَرَّ بآيةِ رحمةٍ سألَ، وإذا مَرَّ بآية عذابٍ استعاذَ ".

 

عبادَ اللهِ!

إنَّ دعاءَ الصلاةِ أنجحُ أسبابِ قضاءِ الحوائجِ وتحقيقِ الغاياتِ؛ كبيرةً كانت أو صغيرةً، دينيةً أو دنيويةً؛ كما أجابَ اللهُ -سبحانه- سؤالَ نبيِّه زكريا –عليه السلام-الولدَ الصالحَ مع عتوِّ سنِّه وعُقْمِ زوجِه حين دعاه قائمًا يصلي في المحرابِ؛ ومِن هنا سأل أعلمُ الصحابةِ أبو بكرٍ الصديقُ –رضي الله عنه-رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يعلِّمَه دعاءً يدعو به في صلاتِه؛ فأرشدَه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى سؤالِ أعظمِ غايةٍ ينشدُها المؤمنُ في أعظمِ مواطنِ الإجابةِ، فقال: " قلْ: اللهمَّ إني ظلمتُ نفسيَ ظلمًا كثيرًا، ولا يَغفِرُ الذنوبَ إلا أنت؛ فاغفرْ لي مغفرةً مِن عندك، وارحمني؛ إنك أنت الغفورُ الرحيمُ " رواه البخاريُّ ومسلمٌ. قال الطَّبَريُّ: " في حديثِ أبي بكرٍ مِن الفقهِ أنَّ للمصلّي أن يدعوَ اللهَ في جميعِ صلواتِه بما بَدا له مِن حاجات دنياه وآخرتِه؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم علَّمَ أبا بكرٍ مسألةَ ربِّه المغفرةَ لذنوبِه في صلاتِه، وذلك مِن أعظمِ حاجاتِ العبدِ إلى ربِّه؛ فكذلك حُكْمُ مسألتِه إياه سائرَ حاجاتِه ". وكان السلفُ الصالحُ في أدعيةِ الصلاةِ يحرصون على الأدعيةِ الجامعةِ، سُئِلَ محمدُ بنُ سيرينَ عن الدعاءِ في الصلاةِ، فقال: " كان أحبُّ دعائِهم ما وافقَ القرآنَ ".

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ. أما بعدُ، فاعلموا أن أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ... أيها المؤمنون!

 

قد وَعَى السلفُ الصالحُ عِظَمَ شأنِ دعاءِ الصلاةِ، وأدركوا سِرَّ إجابةِ اللهِ -سبحانه-له؛ فكانت صلاتُهم باحةَ استنجاحِ حاجاتِهم الدينيةِ والدنيويةِ بِطلبِها مِن ربِّ العالمينَ بدعاءِ الصلاةِ، وكانوا يُطِيلونَ ذاك الدعاءَ، ويستلِذُّون تلك المناجاةَ الربانيةَ إنِ انفردوا بصلاةِ النافلةِ خاصةً حالَ السجودِ وبَعْدَ التشهُّدِ سيّما في صلاةِ تهجُّدِ الليلِ. قال ثابتٌ البُنانيُّ: " الصلاةُ خِدمةُ اللهِ في الأرضِ، ولو عَلِمَ اللهُ شيئًا في الأرضِ أفضلَ مِن الصلاةِ ما قالَ: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾ [آل عمران: 39] "، واستعانَ به رجلٌ على القاضي في حاجةٍ، فجعلَ لا يَمُرُّ بمسجدٍ إلا نزلَ فصلَّى حتى انتهى إلى القاضي، فكلَّمَه في حاجةِ الرجلِ، فقَضَاها، فأقبلَ ثابتٌ على الرجلِ، فقال: لعلَّه شَقَّ عليك ما رأيتَ؟ قال: نعم، قال: ما صليتُ صلاةً إلا طلبتُ إلى اللهِ –تعالى- في حاجتِك. ورأى عروةُ بنُ الزبيرِ رجلًا يصلي فخفَّفَ، فدعاه، فقال: أما كان لك إلى ربك حاجةٌ؟! إني لَأَسألُ اللهَ -عزَّ وجلَّ- في صلاتي، حتى أسألُه المِلْحَ! وقال عونُ بنُ عبدِاللهِ: " اجعلوا حوائجَكم اللاتي تُهِمُّكم في الصلاةِ المكتوبةِ؛ فإنَّ الدعاءَ فيها كفضْلها على النافلةِ ". وقال الشافعيُّ: " كلُّ ما جازَ للمرءِ أنْ يدعوَ اللهَ به في غيرِ صلاةٍ، فجائزٌ أن يدعوَ اللهَ به في صلاتِه، بل أستحِبُّ ذلك له؛ لأنه موضعٌ يُرجَى سرعةُ الإجابةِ فيه، وإنما الصلاةُ القراءةُ والدعاءُ ".

 

وبعدُ، فهذا قَبَسٌ مِن سَنَا دعاءِ الصلاةِ؛ فيا طُوبى مَنْ فَتَحَ اللهُ عليه بدعاءِ الصلاةِ، ورَزَقَه لذةَ المناجاةِ؛ فكان دعاءُ صلاتِه مَبَثَّةَ همومِه، ومَسْلَاةَ أحزانِه، ومَقْضَاةَ حوائجِه، ومَطْلَبًا لعزِّ أمتِه وإرغام عُداتِها؛ فَفَازَ بالحَظْوةِ لدى مولاه، وكانت صلاتُه قُرَّةَ عينِه، وبركةً على أمتِه، ومَفْزِعَه إنْ حَزَبَه أَمْرٌ!

 

كنوزُ البِرِّ تَتْرى بامتنانٍ *** يُجادُ بها على داعيْ الصلاةِ