برحمتِك أستغيثُ
الوصف: الحمدُ للهِ ذي الفضلِ والكرمِ، والطَّوْلِ والنِّعمِ، عمَّ خيرُه الوجودَ، ووسعتْ رحمتُه الذنوبَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.
برحمتِك أستغيثُ
الحمدُ للهِ ذي الفضلِ والكرمِ، والطَّوْلِ والنِّعمِ، عمَّ خيرُه الوجودَ، ووسعتْ رحمتُه الذنوبَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ، فاتقوا اللهَ، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ... ﴾ [البقرة: 278].
أيها المؤمنونَ!
إنَّ من جوامعِ الأدعيةِ التي أحاطتْ -على وجازةِ لفظِها- بحذافيرِ الخيرِ طَلَبًا، والشرِّ استكفاءً: ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يواظِبُ على اللَّهَجِ به في ضراعةِ أوْرادِه إقبالَ ليلِه ونهارِه، وما كان يخصُّه في لحظاتِ الكرْبِ العصيبةِ، وهو ما أوصى به ضَنَاه ابنتَه فاطمةَ رضي اللهُ عنها، إذ استرعى سمْعَها، واستَنْبَه حضورَ قلبِها بتشويقةِ التساؤلِ المتقررِ جوابُه؛ كيما تعيَ وصيتَه، وتظفرَ بعظيمِ الكنزِ الكامنِ فيها حين قالَ لها: ((ما يمنعُكِ أنْ تسمعي ما أوصيكِ به؟ أنْ تقولي إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ: يا حيُّ يا قيومُ، برحمتِك أستغيثُ، أصلحْ لي شأني كلَّه، ولا تَكِلْني إلى نفسي طرفةَ عينٍ أبدًا))؛ رواه ابنُ السنيِّ وصحَّحه المنذريُّ، وكان إذا كَرَبَهُ أمرٌ قال: ((يا حيُّ يا قيومُ! برحمتِك أستغيثُ))؛ رواه الترمذيُّ وحسَّنَه الألبانيُّ. فما سِرُّ حَفَاوةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوةِ، وملازمتِه لها، وجعْلِها عدةً في استجلاءِ الكروبِ؟
عبادَ اللهِ!
إنَّ هذه الدعوةَ قد ضمَّتْ بين عِطْفَيْها إقرارَ الداعي بتوحيدِ اللهِ، وتفرُّده باستحقاقِ العبوديةِ، وإظهارَه الافتقارَ إليه والانكسارَ بين يديه؛ فكان ذلك شِعارَها ودِثارها، وتحقيقَ الرجاءِ لِمَنِ الخيرُ كلُّه بيديه، والاعتمادُ عليه وحدَه، وتفويضُ الأمرِ إليه، والتضرعُ إليه؛ مما صارَ به سببًا يُسْتَنْجَحُ به جماعُ الخيرِ والسلامة من الشرِّ، مع اشتمالِها على توسُّلٍ يحبُّه اللهُ ويرضاه؛ بذِكْرِ اسميْه الحيِّ القيومِ، واستغاثةٍ برحمتِه التي سبقتْ غضبَه ووسعتْ كلَّ شيءٍ، قال ابنُ القيمِ: "ولهذا كان هذا الدعاءُ من أدعيةِ الكرْبِ؛ لما تضمَّنَه من التوحيدِ، والاستغاثةِ برحمةِ أرحمِ الراحمين، متوسلًا إليه باسمين عليهما مدارُ الأسماءِ الحسنى كلِّها، وإليهما مرجعُ معانيها جميعِها؛ وهو اسمُ الحيِّ القيومِ".
فمُفْتَتَحُ الدعاءِ نداءٌ للهِ وسؤالُه بهذين الاسمين؛ فإن "لاسمِ الحيِّ القيومِ تأثيرًا خاصًّا في إجابةِ الدعواتِ، وكَشْفِ الكرباتِ"؛ إذ هو اسمُ اللهِ الأعظمُ الذي إذا سُئلَ به أعطى، وإذا دُعي به أجاب، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((اسمُ اللهِ الأعظمُ في هاتين الآيتين: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 163]، وفاتحةِ آلِ عمرانَ: ﴿ الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 1، 2]))؛ رواه الترمذيُّ وصحَّحَه.
وسَمِعَ رجلًا دعا، فقال: اللهمَّ إني أسألُك بأن لك الحمدَ، لا إلهَ إلا أنت المنانُ، بديعُ السمواتِ والأرضِ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، يا حيُّ يا قيومُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لقد دعا اللهَ باسمِه الأعظمِ، الذي إذا دُعي به أجابَ، وإذا سُئلَ به أَعطى))؛ رواه أحمدُ وصحَّحَه ابنُ حبانَ والحاكمُ.
وروى الترمذيُّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا اجتهدَ في الدعاءِ قال: ((يا حيُّ يا قيومُ)). "فانتظمَ هذان الاسمان صفاتِ الكمالِ، والغنى التام، والقدرة التامة؛ فكأنَّ المستغيثَ بهما مستغيثٌ بكل اسمٍ من أسماءِ الربِّ تعالى، وبكلِّ صفةٍ من صفاتِه؛ فما أولى الاستغاثةِ بهذين الاسمين أن يكونا في مَظِنَّةِ تفريجِ الكرباتِ، وإغاثةِ اللهفاتِ، وإنالةِ الطلباتِ!"، مع يَحْصُلُ للقلبِ مع إدمانِ الدعاءِ بها من حياةٍ واستنارةٍ، قال ابنُ القيم: "ومن تجريباتِ السالكين التي جرَّبوها فأَلِفُوها صحيحةً: أنَّ مَن أدمنَ "يا حيُّ يا قيومُ! لا إلهَ إلا أنت" أوْرثَه ذلك حياةَ القلبِ والعقلِ. وكان شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -قدَّسَ اللهُ روحَه- شديدَ اللَّهجِ بها جِدًّا، وقال لي يومًا: "لهذين الاسمين -وهما الحيُّ القيومُ- تأثيرٌ عظيمٌ في حياةِ القلبِ"، وكان يشيرُ إلى أنهما الاسمُ الأعظمُ، وسمعتُه يقولُ: "مَن واظبَ على أربعين مرةً كلَّ يومٍ بين سنةِ الفجرِ وصلاةِ الفجرِ: يا حيُّ يا قيومُ، لا إلهَ إلا أنت، برحمتك أستغيثُ؛ حَصَلَتْ له حياةُ القلبِ، ولم يمتْ قلبُه"". وكَتَبَ ناصِحًا إمامَ المسلمين بأنه "مضطرٌّ إلى اللهِ تعالى، فإذا ناجى ربَّه في السَّحَرِ، واستغاثَ به، وقال: يا حيُّ يا قيومُ، لا إلهَ إلا أنت، برحمتِك أستغيثُ! أعطاه اللهُ من التمكينِ ما لا يَعْلَمُه إلا اللهُ".
أيها المسلمون!
والتوسُّلُ برحمةِ اللهِ التي عمَّ جزءٌ واحدٌ من مائتِها أهلَ الدنيا وفاضَ عليهم، والاستغاثةُ بها دعاءُ مكروبٍ بعظيمِ حالِ الافتقارِ إلى المولى القديرِ؛ وذلك أقربُ طريقٍ يُوصِّلُ العبدَ إلى رضا ربِّه؛ فيَظْفَرُ بتعجيلِ إجابةِ دعائِه، وقضاءِ حاجتِه؛ فالاستغاثةُ باللهِ دعاءُ كَرْبٍ تعَجَّلُ به الإجابةُ؛ فكيف إنْ قُرِنَتْ بالتوسلِ برحمتِه؟! قال تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 9]، قال سهلُ بنُ عبدِاللهِ التُّسْتَريُّ: "ليس بين العبدِ وبين ربِّه طريقٌ أقربَ إليه من الافتقارِ".
وبعدَ تقديمِ الداعي بين يديْ مسألتِه بليغَ التوسلِ وطَلَبُهُ من ربَّه إصلاحَ جميعِ شأنِه: "أصلحْ لي شأني كلَّه "؛ دينيَّه، ودنيويَّه، وأخرويَّه؛ فلا يبقى منه شيءٌ؛ كَبُرَ أو صَغُرَ، عَمَّ أو خَصَّ، مَضى أو بَقي أو يُنتظَرُ إلا وشمِلَه إصلاحُ اللهِ له؛ فلا فسادَ يَلْحقُه، وإنْ وقعَ فيه فسادٌ فسريعًا ما يكونُ استصلاحُه؛ وإذا صَلَحَ الشأنُ كلُّه لم يبقَ للهمِّ طريقٌ، ولم يَعُدْ للكَرْبِ سَطْوةٌ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ.
أما بعدُ، فاعلموا أن أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ...
أيها المؤمنون!
واستشعارُ الداعي عظيمَ افتقارِه إلى اللهِ سبحانه، وعَيْشُه تفاصيلَ هذا الضَّعْفِ الذي أبداه أمامَ خالقِه أثناءَ مناجاتِه بهذا الدعاءِ العظيمِ - من أعظمِ ما يَرْفَعُ درجتَه عند مولاه، ويكونُ به دعاؤه مسموعًا مُجابًا. وأجلى صورِ إظهارِ العبدِ ضَعْفَه وافتقارَه إلى الله شدةُ تعلُّقِه بربِّه، وأنه لا غنى له عنه، وتبرُّؤُه من كلِّ شيءٍ سوى اللهِ عزَّ وجلَّ، بادِئًا بأقربِها وأرجاها وأقْدَرِه عليها؛ حَوْلِه وقُوَّتِه، فضلًا عن غيرِه؛ إذ لا أحدَ يَبْلُغُ في المحبةِ والنفعِ محبةَ المرءِ نفسَه ونفعَه إياها، وإنْ كان زمنُ الوكالةِ مقدارَ جزءٍ من الثانيةِ؛ قَدْرَ طرْفةٍ واحدةٍ بالعينِ الباصرةِ؛ وذلك الدَّهْرَ كلَّه ما دامَ في الرُّوحِ رَمَقٌ: "ولا تَكِلْنِي إلى نفسي طَرْفَةَ عينٍ أبدًا"؛ إذ ذاك هو الخذلانُ الذي ينعكِسُ به المقصدُ والحالُ؛ فلا يَصْلُحُ معه شيءٌ.
قال ابنُ القيمِ: "وقد أجمعَ العارفون باللهِ أنَّ التوفيقَ هو ألا يَكِلَكَ اللهُ إلى نفسِك، وأنَّ الخذلانَ هو أنْ يُخْلِيَ بينَك وبين نفسِك، فالعبيدُ متقلِّبونَ بين توفيقِه وخذلانِه، بل العبدُ في الساعةِ الواحدةِ يَنَالُ نصيبَه من هذا وهذا، فيطيعُه ويرضيه ويذكرُه ويشكرُه بتوفيقِه له، ثمَّ يعصيه ويخالفُه ويُسْخِطُه ويغفلُ عنه بخذلانِه له؛ فهو دائرٌ بين توفيقِه وخذلانِه، فإنْ وفَّقَه فبفضلِه ورحمتِه، وإنْ خذلَه فبعدلِه وحكمتِه، وهو المحمودُ على هذا وهذا، له أتمُّ حَمْدٍ وأكملُه، ولم يَمنعِ العبدَ شيئًا هو له، وإنما مَنَعَهُ ما هو مجردُ فضلِه وعطائِه، وهو أعلمُ حيثُ يضعُه وأين يجعلُه، فمتى شَهِدَ العبدُ هذا المشهدَ وأعطاه حقَّه؛ عَلِمَ شدةَ ضرورتِه وحاجتِه إلى التوفيقِ في كل نَفَسٍ وكلِّ لحظةٍ وطرفةِ عينٍ، وأنَّ إيمانَه وتوحيدَه بيدِه تعالى، لو تخلَّى عنه طرفةَ عينٍ لَثُلَّ عرْشُ توحيدِه، ولخرَّتْ سماءُ إيمانِه على الأرضِ، وأنَّ المُمْسِكَ له هو مَن يُمْسِكُ السماءَ أنْ تقعَ على الأرضِ إلا بإذنِه، فهِجِّيرَى قلبِه ودَأْبُ لسانِه: يا مُقَلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلبي على دينِك، يا مُصَرِّفَ القلوبِ صَرِّفْ قلبي إلى طاعتِك، ودعواه: يا حيُّ يا قيومُ، يا بديعَ السمواتِ والأرضِ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، لا إلهَ إلا أنت، برحمتِك أستغيثُ، أصْلِحْ لي شأني كلَّه، ولا تَكِلْني إلى نفسي طرفةَ عينٍ، ولا إلى أحدٍ مِن خَلْقِك".
وبعدُ، فهذا وَمْضٌ مِن سِرِّ حفاوةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاءِ العظيمِ؛ ولنا فيه أُسْوةٌ.