دعوات يوسف عليه السلام

الوصف: أيها المؤمنون:بعد قصة طويلة مليئة بالأحداث والوقائع والمصيبات، امتدت لسنوات، تنقل فيها يوسف عليه السلام من محنة إلى محنة، ومن مصيبة إلى أخرى، ومن همٍّ إلى غمٍّ، بعدها أتم الله ليوسف عليه السلام كثيرًا من النعم، أولها تبرئة من اتهام، ثم لحقها منصب وجاه، ورفعة ومال، ومكانة وارتفاع، وكانت نهايتها عفوًا عن الزلات، واجتماعًا بالأبوين والأهل والأقرباء، بعد ذلك كله، وفي نهاية القصة، سأل يوسف عليه السلام ربه مقرًّا بنعمته عليه بأن جعله وزيرًا على الخزائن، وتعليمه تأويل الرؤى، مثنيًا عليه بأنه فاطر السماوات والأرض، وختمها بدعوات طيبات أن يتوفاه الله مسلمًا ويلحقه بالصالحين من الأنبياء والمرسلين؛ فقال تعالى عنه: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101].


صورة القسم 1

دعوات يوسف عليه السلام

 

أيها المؤمنون: بعد قصة طويلة مليئة بالأحداث والوقائع والمصيبات، امتدت لسنوات، تنقل فيها يوسف عليه السلام من محنة إلى محنة، ومن مصيبة إلى أخرى، ومن همٍّ إلى غمٍّ، بعدها أتم الله ليوسف عليه السلام كثيرًا من النعم، أولها تبرئة من اتهام، ثم لحقها منصب وجاه، ورفعة ومال، ومكانة وارتفاع، وكانت نهايتها عفوًا عن الزلات، واجتماعًا بالأبوين والأهل والأقرباء، بعد ذلك كله، وفي نهاية القصة، سأل يوسف عليه السلام ربه مقرًّا بنعمته عليه بأن جعله وزيرًا على الخزائن، وتعليمه تأويل الرؤى، مثنيًا عليه بأنه فاطر السماوات والأرض، وختمها بدعوات طيبات أن يتوفاه الله مسلمًا ويلحقه بالصالحين من الأنبياء والمرسلين؛ فقال تعالى عنه: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101].

 

أيها الكرام: لنا مع هذه الدعوات المباركات التي دعا بها يوسف عليه السلام ربه في نهاية القصة عِبرٌ ووقفاتٌ:

أولى تلك الوقفات، فقد بدأ يوسف دعاءه بقوله: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ﴾ [يوسف: 101]، فإن من يتتبع دعاء الأنبياء، يَرَ أن كثيرًا من أدعيتهم في القرآن بدأت بقولهم: "رب، ربنا"، ولعل السبب في ذلك؛ لأن معنى الرب المربي، فهو يربي عباده الصالحين، وفي ذلك بيان ضعف العبد أمام خالقه وسيده ومولاه.

 

أيها المؤمن: لا تجعل نشوة الفرح بالانتصار، أو المنصب، أو المال، تنسيك شكر نعمة ربك عز وجل عليك، فالمتواضع كلما زاد رفعة ومكانة، ازداد تواضعًا لربه وللخلق، وكلما زادت نِعَمُ الله عليه وتوالت، ازداد شكرًا لربه واعترافًا بها، ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾ [يوسف: 101]، فعلى العبد أن يتذكر ويستشعر نِعَمَ الله عليه دائمًا وأبدًا؛ صغيرة وكبيرة، فنِعَمُهُ لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وخاصة بعض النعم التي تعوَّد عليها بسبب كثرتها ودوامها، كنعمة الإسلام، والمال، والصحة، والعافية، والأمن، والأولاد وغيرها كثير، وأن يشكر ربه ويحمده عليها، فبالشكر تدوم النعم، وبالكفر تزول وتنتهي، وعلى المؤمن أن يعلم قدر الدنيا وحقيقتها، فيجعلها في يديه، ويسخرها في طاعة ربه، ولا يدخلها إلى قلبه، فإن دخلت قلبه، أفسدته، وأغرته، وأسقطته في وحْلِها.

 

أيها المؤمنون: ثم قال يوسف عليه السلام: ﴿ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [يوسف: 101]، على المرء أن يبدأ دعاءه بالثناء على ربه بأسمائه وصفاته، وأن يدعوه بها، فربنا يحب منا أن نثني عليه ونذكره بأسمائه وصفاته، فندعو بأسمائه، ومنها الكبير المنان، الرزاق الرحيم، الرحمن اللطيف، العزيز الجبار، ندعو بكل اسم بما يوافقه من دعاء.

 

ثم قال يوسف عليه السلام: ﴿ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ [يوسف: 101]، فمهما بلغ العبد من منصب وجاه ومال، فهو محتاج إلى ربه الولي الناصر له في الدنيا والآخرة جل وعلا، فلا توفيق ولا فلاح ولا نجاح، إلا بتوفيق الله وإرادته.

 

ثم قال يوسف عليه السلام: ﴿ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ﴾ [يوسف: 101]، لمَّا عدَّد يوسف النِّعَمَ التي أنعم الله بها عليه من نعمة الملك وتأويل الرؤى، طلب من ربه أن يتم عليه أعظم نعمة، وهي أن يتوفَّاه على دين الإسلام، وإن من صفات المؤمن عدم اغتراره بنفسه وبإيمانه وتقواه، وظنه أنه سيموت على الإسلام يقينًا، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فعلى العبد أن يسأل ربه الثبات على الحق، والموت على الإسلام، وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تكون بين يدي الساعة فتنٌ، كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع أقوام دينهم بعَرَضٍ من الدنيا))؛ [رواه الترمذي]، فكم سمعنا من كان مسلمًا فتنصَّر وكفر، ومن ألحد وأنكر الرب جل وعلا، ومن كان مستقيمًا صالحًا، فترك طريق الحق والطاعة، واتبع طريق الشيطان والغواية! ولقد كان من أكثر دعاء النبي عليه الصلاة والسلام الدعاء بالثبات على الدين؛ سألت أم سلمة رضي الله عنها: ((يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان رسول الله يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك، قالت: فقلت: يا نبي الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء))؛ [رواه الترمذي].

 

أيها المسلمون: إن من أعظم النعم التي يمتنُّ الله بها على المسلم نعمة الإسلام، فوجب عليه أن يحافظ عليها، وأن يتمسك بها، وأن يبتعد عن كل ما يكون سببًا في إبعاده عنها؛ من شهوات مهلكة، وشبهات مضللة، فوالله لا يعرف قَدْرَ الإسلام وقيمته إلا من حرمه.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

ففي نهاية هذه الدعوات دعا يوسف عليه السلام ربه؛ فقال: ﴿ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]، سبحان الله! مَلَكَ يوسف خزائن مصر، وأصبح ذا مكانة عالية غِنًى ومنصبٌ وجاهٌ، وسليمان عليه السلام كذلك ملك الدنيا وما فيها، وسخر الله له ما لم يسخر لغيره، ومع ذلك كله اتفقت كلمة النبيين بعد هذا التمكين في الأرض، فقال يوسف في نهاية القصة: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]، وقال سليمان: ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19]، وقالها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [الشعراء: 83]، نعم، فمرافقة الصالحين هي الأساس، وهي الحياة الحقيقية، وبها يتحصل المرء على السعادة الأبدية، مرافقة لهم في الدنيا على الطاعات والخيرات، ومرافقة لهم في الآخرة في الجنات.

 

أيها الكرام: إن من الأخلاق الحسنة التواضع حتى في الدعاء، فيوسف دعا ربه بهذه الدعوات هو ومن معه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أنهم أنبياء صالحون، ومع ذلك يطلبون من الله أن يلحقهم بالصالحين، فكأنهم ليسوا منهم، والمرء الصالح يريد مرافقة الصالحين في الآخرة، كما رافقهم في الدنيا، فمرافقتهم شرف وخير وعز في الدنيا والآخرة؛ وكما قال صلى الله عليه وسلم: ((المرء مع من أحب))؛ [رواه البخاري].

 

وقوله: ﴿ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [الشعراء: 83]، كأن يوسف عندما رأى الدنيا اجتمعت له بكل ما فيها من منصب ومال وجاه، واجتماع أحبة وإخوان وعشيرة، علم أن كل ذلك مهما كان هو من الدنيا الفانية، فتمنى ما عند الله من خيرات ودرجات وجنان، فعلى المرء إن رأى الدنيا مقبلة عليه بكل صورها وأشكالها، أن يذكر نفسه بما عند الله من نعيم مقيم، وخلود أبدي، حتى لا تُفْتَن نفسه وتغتر.

 

وأخيرًا: ثبت يوسف عليه السلام في الضراء فصبر واحتسب، وثبت في السراء فشكر وحمِد، وهذه هي حال المؤمن؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له))؛ [رواه مسلم].

 

فاللهم اجمعنا مع نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ويوسف عليه السلام ومع جميع الأنبياء والرسل في الفردوس الأعلى من الجنة.

 

ألَا فصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه؛ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.