الدُّعَاءُ للأَوْلادِ (خطبة)

الوصف: الحمد لله رب العالمين، نحمدك يا ربنا حمد الشاكرين على ما وهبتنا من نِعَمِك وآلائك، وأكرمتنا بالذرية والبنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُالله ورسوله، وصفيه وخليله، الأسوة الحسنة، والقدوة الكاملة، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛أما بعد:


صورة القسم 1

الدُّعَاءُ للأَوْلادِ (خطبة)


الحمد لله رب العالمين، نحمدك يا ربنا حمد الشاكرين على ما وهبتنا من نِعَمِك وآلائك، وأكرمتنا بالذرية والبنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُالله ورسوله، وصفيه وخليله، الأسوة الحسنة، والقدوة الكاملة، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوا أمره ولا تعصوه؛ فما استُجْلِبت الخيرات إلا بطاعته، وما مُحِقت الأحوال إلا بمعصيته، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].

 

عباد الله:

رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيخًا كبيرًا يده مشلولة، فسأله: "ما الذي أصاب يدك؟ قال: دعا عليَّ أبي في الجاهلية أن تُشَلَّ؛ فشُلَّتْ، فقال عمر: هذا دعاء الآباء في الجاهلية، فكيف في الإسلام؟".

 

أيها المؤمنون:

إن أمانة تربية الأولاد من مشاق الأمانات وكَبَدِها، التي كلف الله بها الوالدين، وعنها يكون سؤالهم يوم الحساب، وقد ازدادت تلك الأمانة في هذا الزمن رهقًا على رهقها؛ بما انفتح من فتن الدنيا، وتيسر من أسباب المآثم، إن زماننا هذا زمن الانفتاح والمتغيرات، ومع كثرة التقنيات والفضائيات، وكثرة الثقافات والشبهات، أصبح أولادنا يعيشون اليوم في مفترق طرق، وتحت تأثير هذه المتغيرات، ولا شك أنها تسبب لهم كثيرًا من المشكلات التربوية والأخلاقية، خصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي، التي صار لها دور سالب وخطير على التربية داخل البيت في غياب دور الأب والأم، وضعف بنيان الأسرة، واختلال مسؤولياتها الاجتماعية.

 

عباد الله:

صلاح الأبناء والبنات أمنية الآباء والأمهات، فيا لها من نعمة عظيمة، ومِنَّة كريمة جميلة، حين تصبح وتمسي، وترى ذريتك، وقد مَنَّ الله عليهم بالصلاح والهداية، يخافون الله، ويقيمون الصلاة، ويحافظون على دينهم، ويتخلَّقون بالأخلاق الكريمة، ذرية تحبهم ويحبونك، وتودهم ويودونك، تأمرهم فيطيعونك، تجد منهم كل احترام وتقدير يبرُّون بك، وينفعون أنفسهم، وإخوانهم، ومجتمعهم، وأمتهم.

 

إن الولد الصالح لَمِن خير ما يدِّخره المرء لنفسه بعد وفاته، فأولاد الرجل من كسبه، وعملهم الصالح من عمله، ودعاؤهم الصالح زادٌ له في قبره.

 

وكم من أب كان مغمورًا فصار مشهورًا، وغدا بالخير مذكورًا، وحلَّ في الجنة قصورًا، بسبب ابن له رباه فأحسن تربيته، فبارك الله فيه ونفع به الناس!

 

وذلك مما يُحتِّم التذكير والتواصي بأعظم سبب يُرجى أن يصلح الله به الولد؛ ذكرًا كان أم أنثى، وذلكم السبب مما يملكه كل والد أبًا كان أو أمًّا، ذلكم هو دعاء الوالد لولده، إن تلك الدعوة رحمة رحم الله بها الوالد والولد حين جعلها مجابةً، لا يعتري إجابتها شك؛ فعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث دَعَوَات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم))؛ [رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني]، وقال مجاهد: "دعوة الوالد لا تحجب دون الله عز وجل".

 

والسر في استجابة تلك الدعوة كما قال أهل العلم: ما قام في الوالد من صدق الطلب، وتبرؤ من الحول، وحسن ظن بالله، ورقة القلب، وانكسار الخاطر، والشفقة والرحمة، والراحمون يرحمهم الله عز وجل.

 

أيها المؤمنون:

ونظرًا لما للدعاء من أثر عظيم في صلاح الأبناء، وجدنا خير خلق الله تعالى وصفوتهم؛ الأنبياء والرسل يسألون ربهم ويُلِحُّون عليه سبحانه أن يصلح لهم ذريـاتهم، حتى إنهم دعَوا الله تعالى من أجلهم قبل أن يُولَدوا:

فهذا إبراهيم عليه السلام يسأل ربه أن يرزقه الابن الصالح: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 100].

 

وزكريا عليه السلام يقوم في محرابه يناجي ربه: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38].

 

ودعت امرأة عمران فقالت لربها عز وجل: ﴿ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36].

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: ((اللهم.... وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا...))؛ [رواه أبو داود، وصححه الألباني].

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين، ويقول: ((إن أباكما كان يعوِّذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة))؛ [رواه البخاري].

 

كما ذكر القرآن أن من صفات عباد الرحمن الذين أضافهم إلى نفسه تشريفًا أنهم يدعون الله جل وعلا أن يصلح لهم ذريـاتهم؛ فقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].

 

أيها الكرام:

ومن وجد من أبنائه عقوقًا وانحرافًا، فإن من أنجع الأدوية دوامَ الدعاء بصدق وإلحاح دومًا وأبدًا.

 

فهذا الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى سيد من سادات هذه الأمة، وعالم من علمائها الأكابر اجتهد في تربية ولده عليٍّ اجتهادًا كبيرًا، وكان يأمل أن يكون صالحًا ورعًا تقيًّا، ولكن الأمر لم يكن كذلك؛ فدعا الله تعالى قائلًا: "اللهم إني اجتهدت أن أؤدب عليًّا، فلم أقدر على تأديبه، فأدبه أنت لي".

 

إنها مشكلة الكثير من الآباء اليوم، أن يبذل الوالدان كل ما يستطيعان في تربية أولادهم، ولكن لا يحالفهم التوفيق، ولكن الفضيل هنا لم ييأس، ورفع أكفَّ الضراعة لله تعالى، وألح على الله جل وعلا، فكان التوفيق منه سبحانه؛ إذ أصبح علي بن الفضيل عونًا لأبيه على التقى والزهد والورع، يخرجان معًا للصلاة والحج وأعمال الخير، يقيمان الليل ويصومان معًا، حتى إن بعض العلماء ليفضِّل عليَّ بن الفضيل على أبيه على جلالة قدر أبيه رحمهما الله.

 

وفي العصر الحديث الكثير من النماذج الحية التي تؤكد مدى أهمية دعاء الوالدين لأبنائهم في صلاحهم وهدايتهم، فهذا أحدهم يسأل أحد الآباء، الذي رزقه الله تعالى الكثير من الأبناء المعروفين بصلاحهم واستقامتهم، وتفوقهم في دراستهم ووظائفهم؛ فيقول: "والله لا أعلم شيئًا إلا أني لا أترك الدعاء لهم أبدًا، وأستغل كل وقت استجابة في الدعاء لهم".

 

أيها المباركون:

إن دعاء الوالد من أعظم التوفيق الرباني للولد:

"قال حزم بن مهران: سمعت رجلًا سأل الحسن البصري، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في دعاء الوالد لولده؟ قال: نجاة، وقال بيده هكذا - كأنه يرفع شيئًا من الأرض - قال: فما دعاؤه عليه؟ قال: استئصال، وقال بيده كأنه يخفض شيئًا".

 

وقال الإمام الغزالي: "دعاء الوالد أعظم ذخرًا وعدةً في الدنيا والآخرة".

 

ولفقدان هذا الدعاء كان حزن الأولاد الموفَّقين على فقد والديهم: لما ماتت أم إياس بن معاوية بكى، فقيل: ما يبكيك، يا أبا واثلة؟ قال: كان لي بابان مفتوحان من الجنة، فأُغْلِق أحدهما.

 

اللهم احفظنا في أنفسنا وأهلينا وذرياتنا، وأصلح لنا شأننا كله، وأعنَّا على إصلاح أنفسنا وذرياتنا، وتُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أقول ما سمعتم...

 

الـخـطبة الـثـانـية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:

فيا أيها المؤمنون: لئن كان دعاء الوالد لولده من أعظم المغانم، فإن دعاءه عليه من أشد المغارم؛ وذلك أن دعوة الوالد على ولده إن كانت بحقٍّ، فهي دعوة خطيرة مجابة؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((... لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم))؛ [رواه مسلم].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دَعَوات يُستجاب لهن، لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده))؛ [رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني].

 

إن الوالدان - أيها الكرام - أو أحدهما قد يغضب لإساءة بعض الأبناء أو عقوقه، وهما إن غضبا فحقهما، لكن ينبغي ألَّا يلجأ أحدهما في هذا الحال إلى الدعاء على الأولاد؛ فإنهما أول من يكتوي ويتألم إن أصاب أبناءهما مكروهٌ.

 

وليستحضر الوالدان أن دعوة الوالد لولده أو عليه هي مما يُستجاب، وقد تكون إجابة الدعوة على الولد سببًا في مزيد من العقوق والفساد لمن دُعِيَ عليه من الأولاد؛ وقد جاء رجل إلى عبدالله بن المبارك رحمه الله يشكو إليه عقوق ولده، فسأله ابن المبارك: "أدعوت عليه؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد أفسدته".

 

وهذا الجواب منه يدل على سعة علمه رحمه الله؛ فإن الدعاء على الأولاد لن يزيدهم إلا فسادًا وعنادًا وعقوقًا، وأول من يشتكي هذا العقوق هو من تسرع بالدعاء عليه.

 

فيا أيها الآباء:

يا من يشتكي سوء أخلاق ولده، وقلة التزامه وطاعته، إن الله تعالى قد جعل بين أيديكم سلاحًا فعالًا لإصلاح أولادكم، فلا تبخلوا على أولادكم بالدعاء سرًّا وجهرًا، في الصلاة وخارج الصلاة، ويا حبذا لو أسمعت ولدك بعض دعائك له؛ مثل أن تقول: "الله يهديك، الله يصلح حالك، الله يرضى عنك"، فإن هذا الكلام يسري في روحه، ويملأ قلبه بمحبتك؛ لِما يرى من حرصك عليه، وحبك له، ويشجعه أن يكون أهلًا لدعائك، وأن يعمل لتحقيق ذلك.

 

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح ذرياتنا، وأن يجعلهم قرة عين لنا في الدنيا والآخرة، وأن يردهم إلى دينه ردًّا جميلًا.

 

اللهم احفظهم بحفظك، اللهم اجعلهم من صالح عبادك ومن حفظة كتابك، ومن أحسن الناس دينًا وخلقًا، ومن أسعدهم حياةً، وأرغدهم عيشةً.

 

اللهم أغْنِهم بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، اللهم ارزقهم صحبة الأخيار، وخصال الأطهار، والتوكل عليك، واحفظهم من شرور الفتن، ما ظهر منها وما بطن يا رب العالمين.