الدعاء مفتاح باب السماء (خطبة)
الوصف: الحمد لله رب الأرض ورب السماء، خلق آدم وعلمه الأسماء، وأسجد له ملائكته، وأسكنه دار البقاء، وجعل الدنيا لذريته دار عمل لا دار جزاء، وتجلت رحمته بهم فتوالت الرسل والأنبياء، الحمد لله سميع الدعاء، مجيب النداء، جزيل العطاء، أحمده سبحانه حمدًا يملأ الأرض والسماء، وما بينهما وما بعدهما مما يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونعوذ بنور وجهه الكريم من جَهد البلاء، ودرك الشقاء، وعضال الداء، وشماتة الأعداء، ونسأله عيش السعداء، وموت الشهداء، والفوز في القضاء، سبحانه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء، خلق الخلق منهم السعداء، وجعل منهم الأشقياء، وأشهد أن سيدنا محمدًا خاتمُ الرُّسُل والأنبياء، وإمام المجاهدين والأتقياء، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحابته الأجلاء.
الدعاء مفتاح باب السماء (خطبة)
الحمد لله رب الأرض ورب السماء، خلق آدم وعلمه الأسماء، وأسجد له ملائكته، وأسكنه دار البقاء، وجعل الدنيا لذريته دار عمل لا دار جزاء، وتجلت رحمته بهم فتوالت الرسل والأنبياء، الحمد لله سميع الدعاء، مجيب النداء، جزيل العطاء، أحمده سبحانه حمدًا يملأ الأرض والسماء، وما بينهما وما بعدهما مما يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونعوذ بنور وجهه الكريم من جَهد البلاء، ودرك الشقاء، وعضال الداء، وشماتة الأعداء، ونسأله عيش السعداء، وموت الشهداء، والفوز في القضاء، سبحانه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء، خلق الخلق منهم السعداء، وجعل منهم الأشقياء، وأشهد أن سيدنا محمدًا خاتمُ الرُّسُل والأنبياء، وإمام المجاهدين والأتقياء، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحابته الأجلاء.
الدعاء صلة اتصال بالله:
أيها المسلمون، الدعاء صلة بين العبد وربه، لا سلطان لأحد عليه، ولا وساطة لأحد فيه، صلة بين العبد وربه إلى يوم اللقاء، وهو مِفْتاح باب السماء، إنه يصل المخلوق بالخالق، والمرزوق بالرازق، ويصل الأرض بالسماء، هو سلاح المؤمن في الشقاء والرخاء، في العسر واليسر، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]؛ أي: إن المستكبرين على الدعاء سيدخلون جهنم مُهانين أذلَّاء.
الدعاء عندما يكون خالصًا ﴿ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [غافر: 14]، فإنه يُسمع ويُنفذ بحول الله، عندما يكون نابعًا من قلب المؤمن قبل لسانه وقد عرف من يدعو، ومن يرجو، وقد عرف ربه، هنا يتحقق المُحال، وتُزال الجبال، وتتحسن الأحوال، وتطمئن قلوب الرجال، ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو عرفتم الله حق معرفته، لزالت بدعائكم الجبال".
الدعاء الخالص:
عباد الله، الدعاء عندما يكون بلا شريك، ولا واسطة، خالصًا محررًا، صافيًا نقيًّا، خيرًا نيرًا، طاهرًا مطهرًا، من كل شائبة، من كل نقيصة، من كل ضغينة، يصل السماء، ويحقق الرجاء، ويطهر المؤمن من كل الذنوب والآثام، كيف؟! في الحديث القدسي: "قَالَ اللَّهُ: يَا بْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلا أُبَالِي، يَا بْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلا أُبَالِي، يَا بْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً".
الدعاء عند البلاء:
أيها المسلمون، إن هذه الحياة تتقلب بين دواعي القلق، وأسباب النكد، ومنابع الهم والغم، التي لا يسلم منها: الكبير والصغير؛ الغني والفقير؛ الوزير والخفير؛ القوي والضعيف؛ الوضيع والشريف؛ الأبيض والأسود؛ الحاكم والمحكوم، فضلًا من الجاهل الظلوم، والضعيف المظلوم، والبائس المحروم، والله يقول: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35].
والابتلاء قد يكون من الشدائد، أو المكائد، أو الغلاء، أو المرض، وقد يكون من الأشخاص أنفسهم كيف؟! ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ﴾ [الفرقان: 20]، فلا بُدَّ من الدعاء لمواكبة كل هذا البلاء، نستعين على ضعفنا بالقوي، وعلى ذُلِّنا بالعزيز، وعلى فقرنا بالغني، وعلى ذنوبنا بالغفور، وعلى ضلالنا بالهادي، وعلى قسوتنا بالرحمن الرحيم.
المؤمن والدعاء:
إخوة الإسلام، المؤمن الحق يعلم أن كل شيء بقدر، سبحان من له الخلق والأمر، وإنه يخلق ما يشاء ويختار، وكل شيء عنده بمقدار، ولحكمة جليلة يقول ربنا: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51].
المؤمن الحق هو الذي يوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الذي يجري الآن فوق الأرض مكتوب قبل خلق الأرض، كيف؟! ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22، 23].
الدعاء عبادة:
عباد الله، الدعاء فضيلة، الدعاء وسيلة، الدعاء قلادة مانعة، الدعاء قيمة رافعة سامية، الدعاء عبادة دافعة؛ بل هو مخ العبادة، بل هو العبادة! قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مُخُّ العبادة"، والدعاء سلاح المؤمن، وهو سلاحٌ قويٌّ، سلاحٌ بتَّار، يصيب ولا يخيب، يخترق ولا يُخطئ، به نجَّى الله نوحًا عليه السلام، وأهلك قومه بالطوفان، وبه نجَّى الله موسى عليه السلام، وأهلك الطاغية فرعون، ونجَّى الله به صالحًا وأهلك ثمود، وأذلَّ عادًا، وأظهر هودًا عليه السلام، وأعزَّ به رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة.
الدعاء شأنه عظيم، فكم من عقيم حملت بسبب الدعاء، وكم من عظيم وصل برفقة الدعاء، وكم من ضائع رُدَّ بسبب الدعاء، وكم من مريض شُفي بسبب الدعاء، وكم من مظلوم انتصر بسبب الدعاء، وكم من مكروب كشف اللهُ كربَه بالدعاء، وكم من مهموم زال همُّه بسبب الدعاء، وكم من دَيْنٍ قضاه الله بسبب الدعاء.
والله تعالى أمر عباده بالدعاء؛ فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]، والدعاء من أعظم العبادات؛ فيه يتجلَّى الإخلاص، ويتألَّق الخشوع، ويزيد الإيمان، وتتمحَّص القلوب، وهو المقياس الحقيقي للتوحيد، قال أحد الصالحين: إذا أردت أن تعرف صدق توحيدك فانظر في دعائك.
الدعاء سعادة:
عباد الله، بالدعاء تُحقِّق سعادتك، وتبلغ مرادك، وسعادتك في يد الله المدعو، فلا صديق ينزعها، ولا قريب يمزقها، ولا رقيب يتحكَّم بها، عندما تدعو ربك تبلغ سعادتك، فأنت في دين تبتسم ولك حسنة، تمرض ولك أجر، تصبر ولك من بعد الصبر يُسْر، تُحْسِن ولك ضعف إحسانك، هذا هو ربُّك الذي تدعوه، وهذا دين الإسلام الذي تدين به، فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفَى بها نِعْمة.
هذه زوجة متصلة بربِّها، سعيدة بإيمانها، قال لها زوجها وهو غضبان: لأشقينَّك، فقالت الزوجة بهدوء: لا تستطيع أن تشقيني كما لا تستطيع أن تسعدني، فقال الزوج بحنق: وكيف لا أستطيع؟ فقالت الزوجة بثقة: لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني، أو زينة من الحلي لحرمتني منها؛ ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون! فقال الزوج بدهشة: وما هو؟ فقالت الزوجة بيقين: إني أجد سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان لأحد عليه غير ربِّي، فلقد فهمت هذه المرأة المعنى الحقيقي للسعادة.
مداومة الدعاء:
عباد الله، هذا زمان لن يقوى فيه إلا مَنْ طَرَقَ أبوابَ السماء، ولن ينجح فيه إلا من كان سلاحه الدعاء، ولن يفلح إلا من تمسَّك بحبل الله، ولن ينجو إلَّا من راقب الله ودعاه ورجاه، وعلَّق فؤاده بخالقه ومولاه! فعَلِّق قلبك بالله تطمئن في دنياك وأُخراك، قال ابن القيم رحمه الله: من أدام الحمد تتابعت عليه الخيرات، ومن أدام الدعاء أجابته السماء، ومن أدام الاستغفار فُتِحت له المغاليق.
مقامات الدعاء:
الدعاء علاج شافٍ، ودواء كافٍ، وله درجات ومقامات، كيف؟!
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يدفعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وله مع البلاء ثلاثة مقامات:
أحدهما: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاءُ فيصاب به العبد؛ ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفًا.
الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه.
الأوقات المستحبة للدعاء:
أيها المسلمون، هناك أوقات يُستحبُّ فيها الدعاء دون غيرها: يوم عرفة من السنة، ورمضان من الشهور، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل، ودبر الصلوات المكتوبة، وبين الآذان والإقامة وغيرها، وفي حال السفر، قال صلى الله عليه وسلم: "الدُّعَاءُ لا يُرَدُّ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ"؛ البخاري، وقال: "إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ"؛ مسلم، وقال أيضًا: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟".
أفضل الأحوال للدعاء:
أيها المسلمون، حال الزحف، وعند نزول الغيث، وعند إفطار الصائم، وحالة السجود، وفي حال السفر، ودعوة المظلوم، ودعاء الوالد لولده، قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ".
وقال: ثَلاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ لا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ.
وقال أيضًا: "ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُم: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ".
الكيفية التي يستحب عليها الدعاء:
عباد الله، يحسن للمرء الداعي أن يستقبل القبلة، ويخفت صوته ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 110]؛ أي: لا ترفع صوتك في دعائك فتذكر ذنوبك فتُعير بها.
الدعاء يُستجاب لمن لديه ثقة بخالقه، ويقين برازقه؛ قال صلى الله عليه وسلم: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ".
والإمام علي كرم الله وجهه يقول: "والله، لو كُشف الغطاء ما ازددت يقينًا".
دعاء المضطر أقرب إلى الإجابة:
﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ﴾ [النمل: 62]، واستجابة الدعاء لا تأتي على عجل، إنما تحتاج إلى صبر وتحمُّل وتجمُّل، قَالَ صلى الله عليه وسلم: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي".
ويستحب أن يُفتتح الدعاء ويُختتم بذكر الله والصلاة على رسول الله، تصحبه التوبة، ورد المظالم، والإقبال على الله عز وجل، وتحري أكل الحلال، ففي صحيح مسلم: "ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِي بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!".
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له: "يا سعد، أطِبْ مطعمك تستجب دعوتك"، وكان مجاب الدعوة بسبب امتثاله لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
خزائن الله تعالي لا تنفد:
أيها المسلمون، إن الله تعالى يعطي وخزائنه ملأى لا تنفد، وهو على كل شيء قدير؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [المنافقون: 7]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ﴾ [ص: 54]، وقال ربنا: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96].
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: "يا عبادي، لو أن أوَّلَكم وآخركم وإنْسَكم وجِنَّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص من ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"؛ رواه مسلم.
فإذا وُفِّق العبد في الدعاء، كان أمر الإجابة أسهل ما يكون؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني لا أحمل هَمَّ الإجابة، إنما أحمل هَمَّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فهناك الإجابة".
والدعاء كله خير:
قال بعض السلف: "نظرت فإذا الخير كله في الطاعة، ثم نظرت فإذا جماع الخير كله في الدعاء".
قال صلى الله عليه وسلم: "من فتح له باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله تعالى شيئًا أحَبَّ إليه من أن يسأل العافية، وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، ولا يرد القضاء إلا الدعاء، فعليكم بالدعاء"؛ رواه الحاكم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء"؛ رواه الترمذي.
فطوبى لمن دعا لنفسه بالجنة والنجاة من النار، والثبات على الصراط المستقيم، وأن يُجنِّبه الله الفتن ما ظهر منها وما بطن، وطوبى لمن دعا بالرفعة والعز والانتصار للإسلام والمسلمين.
من أسباب إجابة الدعاء:
أن يكون الداعي مُوحِّدًا لله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ممتلئًا قلبه بالتوحيد؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا"؛ رواه أبو داود.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أسباب إجابة الدعاء، بينما تركهما يمنع استجابته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ"؛ رواه أحمد والترمذي.
فأكثروا من الدعاء واعلموا أن الله لا يرد من أخلص في دعائه ونجواه، ولا يخيب من رجاه، ولا سيَّما في الأوقات التي تنزل فيها الشدائد والكربات، لعل الله أن يتقبَّل منا الدعاء.
البر بالوالدين من أسباب إجابة الدعاء:
أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه بسنده عن أُسَيْرِ بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أُوَيْسُ بنُ عامر؟
حتى أتى على أويس فقال: أنتَ أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: مِن مُراد ثم من قَرَن؟ قال: نعم، قال: فكان بك بَرَصٌ فبَرَأتَ منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد، ثم من قرن، كان به برص فبَرَأ منه إلا موضعَ درهم، له والدة هو بها بَرٌّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإن استطعتَ أن يستغفر لك فافعل" فاستغفِرْ لي، فاستغفَرَ له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألَا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس- أي: "عامتهم وأخلاطهم"- أحب إليَّ.
حجرت واسعًا:
أيها المسلمون، الدعاء سعة، ورحمة، وفرج، تدعو لنفسك ولغيرك، في صحيح البخاري "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلاةٍ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهوَ فِي الصَّلاةِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِلأَعْرَابِيِّ: "لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا"؛ أي: ضيَّقْتَ واسِعًا، يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ"؛ مسلم.
الدعاء المكروه والمنهي عنه: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ".
وفي صحيح مسلم "لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ"، وكذلك لا يجوز أن يدعو الداعي بتعجيل العقوبة عليه في الدنيا، ففي صحيح مسلم "عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ، فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ"، قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ اللَّهِ لا تُطِيقُهُ أَوْ لا تَسْتَطِيعُهُ، أَفَلا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"، قَالَ: فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ.
ويدخل في المنهي عنه كذلك الدعاء على النفس بالموت لضر نزل به؛ ولذلك نُهينا عنه، فقد روى البخاري في صحيحه "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ"، ومنها: سؤال الله تعالى ما يناقض حكمته، أو الدعاء بمحال، أو الدعاء بما لا مطمع فيه؛ كالخلود في الدنيا، أو الدعاء بما يناقض علمه تعالى؛ كعدم إقامة الساعة، كل ذلك من الاعتداء في الدعاء.
أيها المسلمون، اعلموا أن الإنسان ضعيف بذاته، عاجز عن تحقيق الخير لنفسه إلا بالله العلي القدير، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 188].
إذا كان هذا في حقِّ سيِّد البشر عليه الصلاة والسلام، فمن دونه من باب أوْلَى أنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضُرًّا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء"؛ رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم.
الدعاء أنواع:
والدعاء قد يكون للعبادة مثل: "اللهم أعِنِّي على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك، وقد يكون للمسألة، أما دعاء المسألة مثل قضاء الحاجات من مطالب الدنيا؛ كالشفاء من المرض وطلب الرزق ورفع الكربة وقضاء الدين، ومطالب الآخرة؛ مثل: دخول الجنة، والنجاة من عذاب النار، والثبات في السؤال في القبر، والاستعاذة من أنواع الشرور.
وكلا الدعائين دعاء العبادة، ودعاء المسألة حقٌّ خالص لله تعالى، لا يكون إلا لربِّ العالمين جلَّ وعلا، فلا يكون لملك مُقرِّب ولا لنبيٍّ مرسل، ولا لأي مخلوق، فمن صرف الدعاء لغير الله فهو مشرك بالله ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 31]، وأمثال هؤلاء حرم الله عليهم الجنة ويبقى خلودهم في النار إلا أن يموتوا على توبة، قال ربُّنا: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18].
الافتقار إلى الله:
أيها المسلمون، نحن جميعًا مفتقرون إلى الله، المسلم وهو في قوته وقدرته، وهو في قمة غناه يرى افتقاره إلى الله، كيف؟! ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]، وأن هذا الذي هو به من فضل الله، لكن الغافل متى يشعر بالعبودية؟ ومتى يحس بالافتقار؟ حينما تعتلُّ صحتُه، وحينما يقل الذي بين يديه، المؤمن وهو في أعلى درجات النجاح مفتقر إلى الله عز وجل، ألم يدخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة، مكة التي أخرجته، ونكَّلت بأصحابه، وناصبته العداء عشرين عامًا، دخل مكة فاتحًا وهو مطأطئ رأسه، وكادت عمامته تلامس عنق بعيره، تواضُعًا لله وافتقارًا وشكرًا، شأن المؤمن مفتقر، محب، راضٍ، مقبل في السرَّاء والضرَّاء؛ لكن غير المؤمن إذا أصابته الضرَّاء تذكَّر ربَّه.
المؤمن إذا رزق الخير أكثر الشكر والدعاء لكي يأتيه المزيد ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]، أما غير المؤمن يأتيه الرزق وتأتيه النجاة وتجده يشرك ويتكبر ويتجبر ويبغي في الأرض بغير الحق! كيف؟!
هؤلاء: دعاء ونجاة ثم شرك ولا حول ولا قوة إلا بالله ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65]، وهؤلاء يدعون ضد أنفسهم، بدلًا من أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، انظر ماذا قالوا: ﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأنفال: 32].
وقارون رزق كنوزًا لا تقوى العُصبة على حملها؛ لكنه بغى على قومه، استبدَّ بهم وفرح بظلمهم ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76]، فخسف الله به وبدارِهِ الأرض.
المؤمن يذكر ربه في الرَّخاء والشِّدة، يذكر الله في الرَّخاء حتى يذكره في الشِّدَّة.
الناس تنسى الله في الرخاء وتتذكَّره في الشِّدة ﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29].
الله جل جلاله شأنه مع المُحسِن الإكرام، ومع المسيء التأديب، ومع التائب القبول، ومع المستغفر المغفرة، شأن الله مع عباده حكمة ما بعدها حكمة، وعدل ما بعده عدل.
قال صلى الله عليه وسلم: "ليسأل أحدكم ربَّه حاجته كلها، حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شسع نعله"؛ رواه الترمذي عن أنس بن مالك.
وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سلوا الله كل شيء حتى الشسع، فإن الله إن لم ييسره لم يتيسر"؛ رواه أبو يعلى عن عائشة.
الدعاء مع الأخذ بالأسباب والتوكُّل على الله:
أيها المسلمون، إياكم أن تتوهَّموا أن الدعاء وحده ينفع من دون أن تأخذ بالأسباب، الله جل جلاله أراد ذلك، أراد أن تدعوه، وأراد أن تأخذ بالأسباب، فقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
لا بُدَّ من الأخذ بالأسباب:
﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ﴾: تحرَّكوا، اسعوا؛ لذلك قال علماء التوحيد: من لم يأخذ بالأسباب فقد عصى، ومن أخذ بها وتوكَّل عليها فقد أشرك، والصواب أن تأخذ بها، وأن تتوكَّل على الله، وأن تدعوه، قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: "إن الله يلوم على العجز، ولكن عليكم بالكَيْس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل"؛ رواه أحمد عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ.
الذي يحل به الفقر فيفقر به الناس يزداد فقرًا، كيف؟! قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ"؛ رواه الترمذي عَنْ عبدالله بْنِ مَسْعُودٍ.
وصية النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعِنْ بالله"؛ رواه الترمذي عن ابن عباس.
الله وعدك أن يستجيب لك:
ولا يخافَنَّ العبد إلا ذنبه، ولا يرجونَّ إلا ربَّه، وقد ورد في الأثر القدسي فيما يرويه النبي عن ربِّه جل جلاله أن الله يقول: "من ذا الذي دعاني فلم أُجِبْه؟ وسألني فلم أُعْطِه؟ واستغفرني فلم أغفر له؟ وأنا أرحم الراحمين"؛ من حديث أبي هريرة.
بل إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: "هل من سائل فيُعطى؟ هل من داعٍ فيُستجاب له؟ هل من مستغفر فيُغفر له؟ حتى ينفجر الفجر"
أيها الأخوة الكرام، ورد في الأثر القدسي: "أن يا عبدي لي عليك فريضة، ولك عليَّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعِزَّتي وجلالي، إن لم ترض بما قسمته لك فلأسلطَنَّ عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحش في البريَّة، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي".
"أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد".
ورد في الأثر: "لا يرد القضاء إلا الدعاء"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".
أيها الأخوة الكرام، لا يدفع البلاء إلا الدعاء.
تقييم العمر بحجم الأعمال الصالحة فيه، عن سلمان وعن عائشة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل"؛ رواه الحاكم عن عائشة.
"لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"؛ رواه ابن حبان عن ثوبان.
فضل الدعاء بظهر الغيب:
عباد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبدٍ مُسلمٍ يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملكُ: ولك بمثل".
روى مسلم عن صفوان وهو ابن عبدالله بن صفوان، وكانت تحته الدرداء، قال: قَدِمت الشام فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده ووجدت أُم الدرداء، فقالت: أتريد الحج العام؟ فقُلت: نعم، قالت: فادع الله لنا بخير فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مُستجابةٌ، عند رأسه ملكٌ موكلٌ كُلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل"، قال: فخرجت إلى السوق فلقيت أبا الدرداء فقال لي مثل ذلك يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
من دعائه صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم يقول إذا غزا: "اللهم أنت عضدي ونصري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل".
وكان إذا خاف قومًا قال: "اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم"، فإذا لقي العدو قال: "اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم"، ودعا يوم الأحزاب على المشركين فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم".
الدعاء طريق الأنبياء:
فالدعاء سلاح نافذ حارب به رسول الله وأصحابه أعتى قوتين: الفرس والروم، فانقلبوا صاغرين، ولا يزال ذلكم السلاح هو سيف الصالحين المخبتين مع تعاقب الأزمان وتغيُّر الأحوال، فهل شفي أيوب عليه السلام إلا بالدعاء؟ ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]،
وهل سخرت الريح لسليمان عليه السلام إلا لما دعا ربه؟ ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص: 35]، وهل رزق زكريا عليه السلام بيحيى بعد أن بلغ زكريا من الكبر عتيًّا إلا بالدعاء؟ ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38]، وهل انتصر نوح إلا بالدعاء؟ كيف؟! ناداه نوح بضعفه ﴿ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾ [القمر: 10].
وناداه زكريا بكبر سنِّه: ﴿ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4]، وناداه يونس بتقصيره: ﴿ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، فاجمع ضعفك وفقرك وذنوبك ومرضك وحاجتك واطرحها على أعتابه، وتذلَّل بها في جنابه، بالافتقار إليه، والدخول عليه من أوسع أبوابه.
ادعوا الله بإخلاص:
أيُّها المسلمون، ادعوا الله مخلصين، واستكينوا بين يديه متضرعين، وافتتحوا الدعاء بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ثم الصلاة والسلام على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ثم تخيَّروا من الدعاء أعجبه إليكم ممَّا يناسب الحل ويقتضيه المقام، وعليكم بالأدعية المأثورة فإنها أجمع للخير وأحْرَى بسرعة الإجابة، وليُكرِّر أحدكم الدعوة ثلاثًا، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدعو ثلاثًا، ونادوا الله وناجَوْه باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعِي به أجاب، وأحراه ما كانت به كلمة التوحيد مثل: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، "لا إله إلا الله العظيم الحليم"، أو اشتمل على جملةٍ من صفات الكمال؛ مثل: آية الكرسي، وفواتح سورة الحديد، وأواخر سورة الحشر، وسورة الإخلاص، وألحُّوا على الله بالدعاء، فإنه سبحانه يحب أن يسأل، ويحب المُلحِّين في الدعاء، وهو تعالى جواد حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا خائبتين.
اللهُمَّ يسِّر لنا الأسباب، وافتح لنا الأبواب، اللهُمَّ ليس لنا من الأمر إلَّا ما قضيت، ولا من الخير إلَّا ما أعطيت، فاجعل يارب لنا في كل وقت حظًّا من عبادتك، ونصيبًا من شكرك، واجعلنا دائمًا في معيَّتِك.
اللهمَّ إنك ترى ما لا نرى، وتعلم ما لا نعلم، فاكفِنا شَرَّ ما في الغيب، واحفظنا بحفظك، واستُرنا بسترك، وارحمنا برحمتك، واشملنا بعفوك يا حي يا قيوم.