أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ

الوصف: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله و الله أكبر


صورة القسم 1

أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ

 

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ؛ وَيَقُولُ: «إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ، وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ» رواه البخاري. كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَرْقِي ويُعوِّذُ الحسنَ والحُسينَ رضي الله عنهما؛ كما كان الخليلُ إبراهيمُ يُعَوِّذُ إسماعيلَ وإِسحاقَ عليهم السلام.

 

و«كَلِمَاتُ اللهِ»: هِيَ كَلامُ اللهِ مُطْلَقًا، وقيل: هي القرآنُ؛ ولذا كان الإمامُ أحمدُ رحمه الله يستدلُّ بهذا الحديثِ على أنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يَسْتَعِيذُ بِمَخْلوقٍ. ويَدخُلُ في كَلِمَاتِ الله: أسماءُ اللهِ الحسنى، وصفاتُه العُلَى. وقيل: هي أَقْضِيَتُه، وعذابُه؛ كقوله تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ﴾ [الأعراف: 137] والمعنى - كما ذَكَرَ البغويُّ رحمه الله: (وتَمَّتْ كَلِمَةُ اللَّهِ؛ وَهِيَ وَعْدُهُ إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ).

 

و«التَّامَّة»: أي التَّامُّ فَضْلُها، وبَرَكَتُها؛ لأنها تَمْضِي، وتَسْتَمِرُّ، ولا يَرُدُّهَا شيءٌ البتَّةَ. فهي كاملةٌ لا يَدخُلُها نَقْصٌ، ولا عَيْبٌ، كما يدخلُ كلامَ النَّاسِ، وهي نافِعَةٌ كافِيَةٌ، شافِيَةٌ مُبارَكَةٌ؛ لأنها تَنْفَعُ المُتَعَوِّذَ بها، وتَحْفَظُه من الآفاتِ، وتَكْفِيه الشُّرورَ.

 

قال ابنُ عُثيمينَ رحمه الله: (كَلِمَاتُ اللهِ التَّامَّاتُ؛ هي: التي اشْتَمَلَتْ على العَدْلِ والصِّدْقِ، كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ [الأنعام:115]. والكلماتُ – هُنَا - تَحْتَمِلُ أنها الكلمَاتُ الكَونِيَّةُ، والقَدَرِيَّةُ، والكَلِماتُ الشَّرْعِيَّةُ؛ فإنَّ الإنسانَ يستعيذُ بكلماتِ اللهِ الشَّرعيةِ بِالقُرآنِ مَثَلاً؛ كالتَّعوذِ بسورةِ الفَلَقِ، وسورةِ النَّاسِ. ويَتَعَوَّذُ بالآياتِ الكَونِيَّةِ؛ وهي: أنَّ اللهَ عز وجل يَحْمِيهِ بِكَلِمَاتِه الكَونِيَّةِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ). فالاسْتَعاذَةُ تكونُ بِكَلمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ، وكَلِماتُ اللهِ تعالى هِيَ مِنْ صِفاتِه العُلَى، والمسلمُ يَسْتَعِيذُ باللهِ، وبأسمائِه، وصفاتِه.

 

عباد الله.. دلَّ الحديثُ على أنَّ النبيَّ اسْتَعَاذَ باللهِ تعالى مِنْ شُرُورٍ ثَلاثَةٍ: (الشَّياطِينُ، والهَوَامُّ، والعَيْنُ) واجتمعتْ - في هذه الشُّرورِ ثلاثةُ أُمورٍ: شِدَّةُ الخُطورَةِ، وشِدَّةُ الخُبْثِ، وشِدَّةُ الخَفَاءِ. قال ابنُ تيميةَ رحمه الله: (فَرَّقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الشَّيْطانِ، وبين الهَوَامِّ، وبين أَعْيُنِ الإنْسِ، كما يدلُّ ذلك على وُجودِ الضَّرَرِ في هذه الجِهَاتِ الثَّلاثِ: الإنسِ، والجِنِّ، والهَوَامِّ). وتَفْصِيلُها فِيمَا يَلِي:

1- الاسْتِعَاذَةُ باللهِ«مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ»: يَدْخُلُ فيه: شَيَاطينُ الإنْسِ والجِنِّ. وكان مُشْرِكُو العربِ يَتَعوَّذون بالطَّلاسِمِ الشِّرْكِيَّةِ، وأسماءِ الشَّياطين، فقُوبِلَ ذلك بِتَعَوُّذِ المُوَحِّدِينَ بكلماتِ اللهِ الدَّالةِ على تَوحِيدِه، والاسْتِغَاثَةِ به مِنْ شَرِّ الشَّيَاطِينِ. قال ابنُ تيميةَ رحمه الله: (وكُتُبُ السِّحْرِ مَمْلوءةٌ من الأقسام والعزائمِ على الجِنِّ بساداتِهِم الذين يُعَظِّمُونَهُمْ؛ ولذلك كانَتِ الإِنْسُ تَسْتَعِيذُ بِالجِنِّ؛ كما قال اللهُ تعالى ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ﴾ [الجن: 6]، كانوا إذا نَزَلَ الرَّجُلُ منهم بِوَادٍ يقولُ: "أعوذُ بِعَظِيمِ هذا الوادِي مِنْ سُفَهائِه"، فأنْزَلَ اللهُ هذه الآيَةَ).

 

2- الاسْتِعَاذَةُ باللهِمِنْ كُلِّ «هَامَّةٍ»: والهَامَّةُ: ذَوَاتُ السُّمومِ مِنْ حَشَراتِ الأرض، وجَمْعُها: هَوَامٌّ. وقيل: هي الحَيَّاتُ، وكلُّ ذِي سُمٍّ يَقْتُلُ؛ كالعَقارِبِ والحَيَّاتِ ونَحْوِها.

 

3- الاسْتِعَاذَةُ باللهِ «مِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ»: وهي كُلُّ عَينٍ تُصِيبُ الإنسانَ بِسُوءٍ، وتُلِمُّ به، يُقال: ألْمَمْتُ بِالشَّيْءِ: نَزَلْتُ به. والعينُ مِنْ أَخْطَرِ الشُّرورِ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ؛ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» رواه مسلم. قال ابنُ حجرٍ رحمه الله: (جَرَى الْحَدِيثُ مَجْرَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِثْبَاتِ الْعَيْنِ، لَا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَرُدَّ الْقَدَرَ شَيْءٌ؛ إِذِ الْقَدَرُ عِبَارَةٌ عَنْ سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ، وَهُوَ لَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ. وَحَاصِلُهُ: لَوْ فُرِضَ أَنَّ شَيْئًا لَهُ قُوَّةٌ، بِحَيْثُ يَسْبِقُ الْقَدَرَ؛ لَكَانَ الْعَيْنُ، لَكِنَّهَا لَا تُسْبَقُ، فَكَيْفَ غَيْرُهَا؟).

 

وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعَيْنُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ، وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ [أي: إذا أَصَابَتْهُ مَاتَ، أو أَشْرَفَ على المَوتِ؛ فَذُبِحَ، وطُبِخَ]» حسن – رواه أبو نُعيم في "الحِلية". قال النَّوويُّ رحمه الله: (الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّرَهَا اللهُ تعالى، وسَبَقَ بها عِلْمُهُ. فلا يَقَعُ ضَرَرُ العَيْنِ، ولا غَيرُه من الخَيرِ والشَّرِّ إلاَّ بِقَدَرِ اللَّهِ تعالى. وَفِيهِ صِحَّةُ أَمْرِ الْعَيْنِ، وَأَنَّهَا قَوِيَّةُ الضَّرَرِ).

 

الخطبة الثانية

الحمد لله... أيها المسلمون.. قد يُصِيبُ الإنْسِانُ نَفْسَه أو مَالَه بِالْعَينِ؛ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ، أَوْ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ مِنْ مَالِهِ مَا يُعْجِبُهُ، فَلْيُبَرِّكْهُ [مِنَ التَّبْرِيكِ، أي: فَلْيَدْعُ له بِالْبَرَكَةِ]؛ فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ» صحيح – رواه أحمد. والشاهِدُ: قولُه صلى الله عليه وسلم: «أَوْ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ مِنْ مَالِهِ مَا يُعْجِبُهُ».

 

والوَاقِعُ يُصَدِّقُه: قال الْفَضْلُ بْنُ الْمُهَلَّبِ: (بَعَثَ إِلَيَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي الْجُمُعَةِ؟ قُلْتُ: ذَاكَ إِلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَدَعَا بِثِيَابٍ صُفْرٍ، فَلَبِسَهَا ثُمَّ دَعَا بِالْمِرْآةِ فَنَظَرَ، ثُمَّ نَزَعَهَا، ثُمَّ دَعَا بِثِيَابٍ خُضْرٍ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ دَعَا بِالْمِرْآةِ فَنَظَرَ، ثُمَّ قَالَ: "أَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ، أَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ". ثُمَّ انْطَلَقَ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ، إِذْ عَرَضَتْ لَهُ سَعْلَةٌ، فَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَهُوَ مَحْمُومٌ، فَمَا جَاءَتِ الْجُمُعَةُ الْأُخْرَى حَتَّى دُفِنَ).

 

وفي روايةٍ: عن يَحْيَى بْنِ يَحْيَى قَالَ: (جَلَسَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي بَيْتٍ أَخْضَرَ على وِطَاءٍ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ خُضْرٌ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ فِي الْمِرْآةِ، فَأَعْجَبَهُ شَبَابُهُ وَجَمَالُهُ؛ فَقَالَ: "كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه صِدِّيقًا، وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه فَارُوقًا، وَكَانَ عُثْمَانُ رضي الله عنه حَيِيًّا، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَلِيمًا، وَكَانَ يَزِيدُ صَبُورًا، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ سَائِسًا، وَكَانَ الْوَلِيدُ جَبَّارًا، وَأَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ"، فَمَا دَارَ عَلَيْهِ الشَّهْرُ حَتَّى هَلَكَ).

 

والعَيْنُ تَقَعُ مِنَ الإِنْسِ والجِنِّ؛ قال ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: (الْعَيْنُ عَيْنَانِ: عَيْنٌ إِنْسِيَّةٌ، وَعَيْنٌ جِنِّيَّةٌ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ [هو نَوْعٌ مِنَ السَّوادِ لَيْسَ بِالكَثِيرِ]، فَقَالَ: «اسْتَرْقُوا لَهَا [أي: اطْلُبُوا مَنْ يَرْقِي]؛ فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ» رواه البخاري. قَالَ الحسينُ بنُ مَسْعُودٍ الفَرَّاءُ: وَقَوْلُهُ: «سَفْعَةٌ» أَيْ: نَظْرَةٌ، يَعْنِي: مِنَ الْجِنِّ، يَقُولُ: بِهَا عَيْنٌ أَصَابَتْهَا مِنْ نَظَرِ الْجِنِّ، أَنْفَذُ مِنْ أَسِنَّةِ الرِّمَاحِ).

 

ومِنْ فَوائِدِ الحديثِ:

1- أنَّ كَلِمَاتِ اللهِ التامَّةَ هِيَ كلماتُه الشَّرعيةِ، وكلماتُه الكونيَّةِ، والقَدَريَّةِ.

 

2- العِنايَةُ بِالأَطْفَالِ؛ بِدَوامِ رُقْيَتِهِمْ، وتَعْوِذِهم بِاللهِ العظيمِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ، ومِنْ كُلِّ سُوءٍ، وضُرٍّ.

 

3- تَعْلِيمُ الأطفالِ التوحيدَ، والاستعانةَ بالله، وعدمُ الاستعانةِ أو الاستعاذةِ بِغَيرِه. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَمَّ ابنَ عبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ فَقَالَ له: «يَا غُلاَمُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» صحيح – رواه أحمد والترمذي.

 

4- الاقْتِدَاءُ بِأَهْلِ العِلْمِ والإِيمانِ والصَّلاحِ.

 

5- بَيَانُ خُطُورَةِ العَينِ، والحَثُّ على الاسْتِرْقَاءِ منها.

 

6- الاسْتِعَاذَةُ باللهِ مِنْ كُلِّ عَيْنٍ تُصِيبُ الإنسانَ بِالسُّوءِ، سَواءٌ كانَتْ مِنْ أَعْيُنِ الجِنِّ أو الإِنْسِ.