سلاح الدعاء

الوصف: الحمد لله الذي جعل الدعاء عبادةً تُنال بها أعلى المراتب، ووسيلة يُتوصَّل بها إلى أسمى المطالب، ودليلًا على العبودية لرب المشارق والمغارب، والصلاة والسلام على أصدق الداعين، وأرغب السائلين، وأحسن الخلق ظنًّا برب العالمين، والشافع المشفَّع يوم الدين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة تقتضي إخلاص الدعاء، وتيقن الإجابة، وتمنع التوجه إلى غيره والوقوف بغير بابه، وأشهد أن محمدًا عبدُالله ورسوله؛ القائل: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك))[1]؛أما بعد:


صورة القسم 1

سلاح الدعاء

 

الحمد لله الذي جعل الدعاء عبادةً تُنال بها أعلى المراتب، ووسيلة يُتوصَّل بها إلى أسمى المطالب، ودليلًا على العبودية لرب المشارق والمغارب، والصلاة والسلام على أصدق الداعين، وأرغب السائلين، وأحسن الخلق ظنًّا برب العالمين، والشافع المشفَّع يوم الدين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة تقتضي إخلاص الدعاء، وتيقن الإجابة، وتمنع التوجه إلى غيره والوقوف بغير بابه، وأشهد أن محمدًا عبدُالله ورسوله؛ القائل: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك))[1]؛ أما بعد:

فأوصيكم - عباد الله - ونفسي بتقوى الله، عباد الله:

إن الأمة الإسلامية اليوم تعيش فترة من أحْلَكِ فترات تاريخها، وأصعب أدوار حياتها، فترة اجتمع بها الفقر والحاجة، والأمراض والأوبئة، والكوارث الطبيعية من زلازل وغيرها، وانتشار مذهل للفتن تجعل المؤمن يخاف على نفسه من الوقوع فيها، كما يخشى أن تجتاح أهله وأولاده.

 

وعلى مستوى الأمة، هناك فتن وحروب داخلية، ومكائد ومؤامرات، ينفِّذ فيها بعض الأطراف رغبات الأعداء؛ مما فرض على الأمة بأسرها طوق الهوان، وألبسها رداء الذل، وجعلها ذيلًا حقيرًا بعد أن كانت رأسًا شريفًا، ولما هانت عند نفسها، أهانها الله لأعدائها، فشُنَّت الحروب الطاحنة؛ عسكرية واقتصادية، وسياسية وأخلاقية وعقدية عليها من كل جانب، فأين باب النجاة وسُلَّم السلامة، وسبيل الخروج من هذا الواقع الأليم؟

 

إن ذلك كله يتلخص في تغيير ما بالنفوس من الركون إلى الأعداء، والإعراض عن الله؛ كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وفي التضرع إلى الله، والتذلل بين يديه، والفرار إليه مما سواه؛ كما قال الله تعالى عندما ابتلى بعض الأمم السابقة بالبأساء والضراء: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 43]، وقال عن آخرين: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ﴾ [الأعراف: 94]، فالتضرع من أجلِّ العبادات التي تعبَّد الله بها عباده، وأمرهم بها شرعًا، وساقهم إليها بما ينزل بهم من البأساء؛ ليَظهْرَ من نفعته الموعظة، وتؤثر فيه الحاجة، ممن يزين له سوء عمله، ويزداد عتوًّا ونفورًا كلما زاد البلاء، وقد ذمَّ الله كفار مكة حينما لم يتضرعوا إليه عند نزول البلاء، وعقوبة التأديب والتذكير؛ فقال: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ﴾ [المؤمنون: 76]؛ لذلك فإن الواجب علينا اليوم ونحن تحيط بنا العقوبات وأنواع التأديب والتذكير من كل جانب، أن نتضرع إلى الله، وندعوه ونرغب فيما عنده، ونتذلل بين يديه؛ لعله يستجيب فيكشف ما نحن فيه؛ حيث إننا في غاية الاضطرار؛ وقد قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62]، فحالنا تستدعي التضرع، وتستدعي الإجابة في نفس الوقت، فهل نفعل؟

 

ومع أن الدعاء إنما هو لمصلحتنا وفوائده عائدة علينا، فإن الله يأمرنا به ويُثيبنا عليه، ويغضب على من أعرض عنه فلم يَدْعُهُ، ويعده من المستكبرين، ويتوعده بدخول جهنم؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].

 

ولهذا يقول الشاعر:

لا تسألنَّ بُني آدم حاجة
وسَلِ الذي أبوابه لا تُحجبُ
فالله يغضب إن تركت سؤاله
وبُني آدم حين يسأل يغضبُ

 

وانظروا - عباد الله - إلى أنبياء الله ورسله، الذين عرفوا الله حقَّ معرفته، وقَدَروه حق قدره، كيف يُهرعون إلى الله في جميع حاجاتهم، ويلتجئون إليه في كل ما ألمَّ بهم، من بأساء أو ضراء، بل ويتوجهون إليه ليعطيهم ما يحتاجون إليه مما فيه صلاح دينهم ودنياهم، ويستنصرونه على عدوِّه وعدوهم، فيبادرهم بالإجابة ويحقق لهم ما سألوه.

 

فهذا نوح يعلم البشرية كلها كيف تدفع عن نفسها ما نزل بها من فقر وحاجة، وقلة أموال وأولاد: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12].

 

وحينما يحس موسى بالحاجة إلى الطعام والشراب والمأوى؛ يناجي ربه قائلًا: ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]، وما هي إلا لحظات وإذا بالإجابة تتحقق والدعوة تُستجاب: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25].

 

وكم لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه حين يحس بالحاجة والفاقة، وقلة الزاد والماء؛ فيسعفه الله بذلك، فيكثر الطعام، ويخرج الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى يشبع ويَرْوى أصحابه، فهلا اعتمدنا نحن على الله في كشف معاناتنا الاقتصادية، ولجأنا إليه ليطعمنا ويسقينا بعد أن نمتثل أمره ونحكِّم شرعه ونجتنب معاصيه، بدل أن نلجأ إلى أعدائنا وأعدائه، فيفرضوا علينا أسوأ الشروط، ويُلجئونا إلى المعصية الظاهرة والمحاربة الكاملة لرب العالمين، وأما الأمراض، فالله هو الذي ينزلها ابتلاءً ويرفعها تكرُّمًا، فيجب اللجوء إليه والتضرع بين يديه إذا أصابنا شيء من ذلك، مع اتخاذ الأسباب المشروعة، ولتكن لنا أسوة في أيوب عليه السلام الذي صبر واحتسب لِما أصابه، ثم رفع شكواه إلى ربه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]، هذه دعوة قصيرة وتوسُّل صادق أعقبه الفرج؛ قال تعالى: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 84].

 

وأما النكبات الفردية، فأعظمها نكبة يونس عليه السلام وكلكم يعرفها؛ حتى لقد قال تعالى عنها: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 143، 144]، ولكنه في ذلك الحال لجأ إلى الله، واعترف بذنبه، وتبرأ منه وتاب؛ فجاءه الفرج؛ قال تعالى: ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، وجاءت استجابة الله مباشرة بالفرج والنجاة؛ قال تعالى: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 88]، فهي ليس له وحده، بل لكل مؤمن سلك ذلك السبيل؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوة ذي النون إذ دعا به وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يَدْعُ بها رجل مسلم في شيء قط، إلا استجاب الله له))[2].

 

وكذلك النكبات الجماعية، والعذاب الشامل، والعقوبة العامة، إذا صدق من تعرض لذلك، وتاب وأناب إلى ربه، وتضرع بين يديه، فإن الله يرفع عنه تلك العقوبات؛ كما حكى الله تعالى عن قوم يونس؛ حيث قال عنهم: ﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [يونس: 98]؛ قال ابن كثير رحمه الله: "والغرض أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى، إلا قوم يونس؛ وهم أهل نينوى، وما كان إيمانهم إلا خوفًا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم، بعدما عاينوا أسبابه، وخرج رسولهم من بين أظهرهم، فعندها جَأَروا إلى الله، واستغاثوا به، واستكانوا، وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم، وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم، فعندها رحمهم الله وكشف عنهم العذاب"[3]، فأين نحن من هذا السلاح الذي به نبرأ مما نحن فيه من أمراض متراكمة؟ وأين نحن من هذا السلاح الذي ندفع به عنا الحروب الطاحنة؟

 

عباد الله:

وأما الفتن المسلَّطة علينا؛ فتن الشهوات، وفتن الشبهات، وفتن الابتلاءات، فلا ملجأ فيها من الله إلا إليه، وليس لها من دون الله كاشفة، فعلينا أن نلتجئ إليه، كما التجأ إليه عباده الصالحون وأنبياؤه ورسله؛ فهذا إبراهيم يخاف على ذريته من فتن الشرك والظلم والضلال؛ فيقول: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 35، 36]، وحينما خاف يوسف على نفسه من فتنة الشهوات، وإغراء النساء؛ قال: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]، فلما فوَّض أمره إلى ربه، ورفع شكواه، استجاب له وصرف عنه تلك الفتن؛ قال تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 34].

 

الخطبة الثانية

أيها الإخوة:

أما الذل والهوان وتسلط الأعداء وتعبيدهم للمؤمنين، فقد تعرض له أمم قبلنا، فلما جاء وقت الفرج، ودنا زمان الانعتاق، سخَّر الله لهم القيادة الرشيدة التي تدعوهم إلى الله وتدعو الله لهم، فغيروا ما بأنفسهم ولجؤوا إلى ربهم، فأزاح عنهم ما كانوا فيه من أنواع الاستعباد والذل والهوان، وأهلك عدوهم وأذله وأهانه، وخير مثال على ذلك قصة فرعون مع بني إسرائيل؛ حيث وصل الحال بفرعون وملئه أن يتواصَوا في مجلس شيوخهم وكونجرسهم بقتل المؤمنين؛ كما أخبر الله عنهم: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعراف: 127]، وحينما شكا ذلك الشعب المظلوم المهان المستعبد إلى رسوله ما أصابه من عدوه، كان جواب الرسول الكريم والقائد الرشيد العظيم؛ كما حكى الله: ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 128، 129]، وبعد أن يغرس فيهم هذا الأمل العظيم، ويرفع من معنوياتهم، يأخذ بنواصيهم فيوجههم إلى الله؛ كما وصف الله تعالى: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [يونس: 84 - 86]، ثم يأتي دور موسى نفسه فيدعو على عدوه وعدو قومه: ﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88]، وعندها تأتي الإجابة والفرج: ﴿ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 89 - 92]، فينجاب ليل الظلم والذل، ويسطع فجر الحرية والعز والتمكين؛ وذلك بالرجوع إلى الله، وصدق الالتجاء إليه، والتضرع بين يديه.

 

وأما الحروب الطاحنة المحدقة بالمسلمين اليوم، فإنها ليست جديدة، وإنما الصراع بين الحق والباطل قديمٌ قِدَمَ التاريخ، وما من نبي ولا مصلح إلا وتعرض لحروب الكافرين ومؤامراتهم وقتلهم وقتالهم، فبأي شيء كانوا يواجهون ذلك؟

 

كانوا يواجهونه بالإعداد الشامل، والتوكل الكامل، والالتجاء والافتقار الصادق إلى الله، وطلب النصر منه وحده؛ فيعطيهم إياه وينصرهم على عدوه وعدوهم: ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 126].

 

وحينما أصاب المسلمين في أُحُدٍ ما أصابهم، ضرب الله لهم مثلًا بالأنبياء قبلهم وأممهم الذين استجاب لهم، فلقُوا من تسلط الأعداء وحربهم ما لقوا، وكيف واجه الأنبياء وأممهم تلك الحروب؛ فقال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]، فهذا هو الموقف العزيز الشامخ أمام الأعداء، وفي المقابل التذلل والانكسار، والتضرع والاعتراف بالذنب بين يدي الملك الجبار: ﴿ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 147]، ونتيجة لهذا الموقف العظيم؛ موقف الثبات والصبر أمام الأعداء، وموقف التوبة والتذلل والتضرع أمام الله، تأتي النتيجة النهائية والعاقبة الموعودة للمتقين والصابرين والداعين والمستغفرين والمحسنين: ﴿ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 148]؛ وثواب الدنيا هو النصر والظَّفَر والغنيمة، وثواب الآخرة هو رضا ربهم والنعيم المقيم الذي قد سلم من جميع المنكدات.

 

ومثال ثانٍ من تاريخ المؤمنين من بني إسرائيل على عهد داود، وما جرى لهم من الجبابرة جالوت وقومه، فحينما تواجه الجمعان لم يركن المؤمنون إلى عددهم وعُدَّتهم، أو أي سبب مادي، مع أخذهم بتلك الأسباب، وإنما توجهوا إلى رب السماوات الأرض؛ فقالوا: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250]، وبدون تأخير جاءت النتيجة الحاسمة: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251].

 

وآخر تلك الأمثلة وأقربها إلينا وأعظمها مثال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر أمام جحافل الكفر، الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، ففعل المؤمنون ما أمكنهم من الأسباب الظاهرة، ثم توجهوا إلى ربهم؛ وكان حالهم كما وصف الله تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ... ﴾ [الأنفال: 9، 10]؛ إلى آخر السياق.

 

وقد استلهم ذلك قادة المسلمين في إبان الفتوح الإسلامية، التي أعز الله بها المؤمنين، وأذل بها المشركين، وحطَّم بها الطواغيت؛ فهذا القائد العظيم قتيبة بن مسلم لما اصطفَّ العدو، وكانوا كثيري العدد والعدة، فهاله أمرهم، فسأل عن أحد جنوده المقاتلين الصالحين؛ وهو محمد بن واسع البصري، فقيل له: هو ذاك في الميمنة، جامح على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء - أي يدعو الله - قال قتيبة: "تلك الأصبع أحب إلى من مائة ألف سيف شهير، وشاب طرير"، وقد نصرهم الله على عدوهم.

 

عباد الله:

هذا هو شأن الدعاء ومكانته عند الله، هذه هي أحوال الأمم ومعاناتهم الشخصية والجماعية، ومعاناتهم بالكوارث والنكبات، ومعاناتهم بتسلط الأعداء، وبتلك الأساليب واجهوها: بالتوبة والرجوع إلى الله، والانطراح والتذلل بين يديه، وبالتضرع الصادق والدعاء الخالص، بعد أخذهم ما يمكن من الأسباب.

 

وما دام حديثنا عن الدعاء، فلا بد من تنبيهات:

أولًا: إن القلب المؤمن الذي يستحق النصر، إنما هو القلب المتعلق بالله المتوكل عليه، المستكفي بمعيته، المستيقن سماع دعائه وتحقق إجابته: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 173، 174].

 

الثاني: حسن الظن بالله، واليقين بالإجابة، وعدم التشكك عند تأخرها؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً مِن قلب غافل لاهٍ))[4].

 

ويقول صلى الله عليه وسلم: ((يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ ما لم يَعْجَلْ يقول: دَعَوْتُ فلم يُسْتَجَبْ لي))[5].

 

الثالث: الواجب هو جزم المسالة وألَّا يستعظم الأمر؛ فإن الله تعالى لا يعجزه شيء؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا دَعَا أحدكم فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، ولا يَقُولَنَّ: اللهم إن شِئْتَ فَأَعْطِنِي؛ فإنه لَا مُسْتَكْرِهَ له))[6].

 

وعلى هذا لا نستعظم أن يحطم الله هؤلاء الطواغيت والفراعنة، وإن كانوا في نظرنا أقوى الدول وأعظم الأمم؛ فقوة الله أعظم من قوتهم.

 

الرابع: أن نتحرى الأوقات والأحوال التي يُستجاب فيها الدعاء.

 

الخامس: أن نجتنب موانع استجابة الدعاء.



[1] رواه الترمذي 4/ 667 برقم 2516، وقال: حديث حسن صحيح.

[2] رواه الترمذي 5/ 529، برقم 3505، وانظر: حديث رقم: 3383 في صحيح الجامع.

[3] تفسير ابن كثير 2/ 434.

[4] رواه الترمذي 5/ 517، وانظر حديث رقم: 245 في صحيح الجامع.

[5] رواه البخاري 5/ 2335، برقم 5981.

[6] رواه البخاري 5/ 2334، برقم 5979.