خطبة الذِّكر
الوصف: الخطبة الأولى
خطبة الذِّكر
الخطبة الأولى
إنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيْه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم عَلَيْهِ وعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا؛ أَمَّا بَعْدُ:
عباد الله! فـ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا المؤمنون! ثَمَّة عبادة يسيرة جِدًّا وسهلةٌ سهولًا عظيمًا عَلَىٰ من سهلها الله عَزَّ وَجَلَّ عليه، عبادةٌ تتكرر في اليوم مرات عديدة، رُتّب عليها الأجور الكثيرة، هي أعظم ما يُنجي من عذاب النَّار، كما قَاله النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه التِّرْمِذِيّ وغيره، إنها يا عباد الله عبادة ذِكْر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ، وهي عَلَىٰ نوعين:
ذِكر مطلق، لا يتحدد بزمانٍ ولا بمكانٍ ولا بحال، وَإِنَّمَا يذكر الله جَلَّ وَعَلَا بلسانه في جميع أحواله.
وَالنَّوْع الْثَّانِي: عبادة في ذِكر الله مخصوصة، إِمَّا مخصوصة بزمان، كأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم، وَإِمَّا أنها مخصوصة بحال، بدخول المنزل والحمام -أعزّكم الله-، والمساجد والخروج منها، ولبس الثياب، وما يتعلَّق بهذه الأحوال.
هٰذَا الذِّكْر يا عباد الله رُتبت عليه الأجور العظيمة، والثواب الكبير، ومن ذلك الحروز في هٰذِه الدنيا من الشياطين والأذى، ومن الغثى، ومن ذلك أَيْضًا أجورها المرتبة عليها يوم القيامة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ.
ومنها ذِكرٌ من ذكره ثُمَّ مات بعده؛ ما كان بينه وبين دخول الجَنَّة إِلَّا الموت، كقراءة آية الكرسي عقب الصلوات الخمس، وكذلك قراءة سيد الاستغفار في أذكار الصباح وأذكار المساء.
ومنها أذكارٌ مناطةٌ مرتبطة بالعبادات، كالأذكار الَّتِي تكون عقب الصلوات المفروضة، وكذلك الأذكار الَّتِي تكون قبل بدء الطعام وبعد الفراغ منه، فَهٰذِه عبادات عظيمة، عودوا -يا رعاكم الله! عودوا- فيها أنفسكم وأهليكم وأولادكم عليها؛ تكن لكم حرزًا وحرزًا لهم، وأجورًا لكم وأجورًا لهم عظيمةً يوم القيامة.
واحذروا في ضمن ذلك يا عباد الله أنواعًا من الأذكار المحدثة الَّتِي يحدثها بعض النَّاس، إِمَّا من حزب طريقته الَّتِي نشأ عليها، وَإِمَّا من تقليد غيره بغير دليل ولا هدى، وَإِمَّا باستذواق نفسه واستنجابه لها، بأن يُحدِث أذكارًا لم تأتِ في الكتاب ولا في السُّنَّة، يتعبد الله عَزَّ وَجَلَّ فيها.
والله جَلَّ وَعَلَا لا يقبل من العمل إِلَّا ما كان خالصًا لوجهه، وكان موافقًا لهدي نبيه مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي باب الذِّكْر يكثر أنواع من المحدثات، في ذِكر محدث في هيئته، أو في عدده، أو في وقته، أو في مكانه، أو في زمانه، وملزم ذلك يا عباد الله: أن يعرف المؤمن ما جاء عن النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هٰذِه الأذكار، فيتعلَّمها أولًا، ويحافظ عليها ثانيًا، ويداوم عليها ثالثًا، ويعلّمها غيره رابعًا.
ومن أحسن ما صُنِّف في ذلك يا عباد الله:
"الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَىٰ.
وكذا كتاب شيخه المختصر "الكلم الطيب" لابن تَيْمِيَّة.
وقبل ذلك "الأذكار" للنووي.
ولم يزل أهل العلم يرتبون هٰذِه الأذكار، إِمَّا في أزمانها كأذكار الصباح والمساء، وَإِمَّا في مختلف أحوالها، كأذكار النوم والدخول والخروج والطعام، وما يتعلَّق بذلك.
فحافظوا عليها يا عباد الله! تسعدوا في دنياكم، وتعظم أجوركم عند ربكم، فإنَّ الذِّكْر أعظم ما يُنجي من عذاب الله، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ يقول: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].
نفعني الله وَإِيَّاكُمْ بالقرآن العظيم، وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ كما أمر، أحمده سُبْحَانَهُ وقد تأذَّن بالزيادة لمن شكر، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إقرارًا بربوبيته، وإيمانًا بألوهيته، واعترافًا بأسمائه وصفاته، مراغمًا بذلك من عاند أو شكَّ أو كفر، ونصلي ونسلِّم عَلَىٰ سيد البشر، نَبِيّنا مُحَمَّد صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ خير آلٍ ومعشر، ما طلع ليل وأقبل عليه نهار وأدبر؛ أَمَّا بَعْدُ:
يا عباد الله! إن ذِكر الله عَزَّ وَجَلَّ شاملٌ لحياة العبد في دنياه، مفرج الله عَزَّ وَجَلَّ به من همومه وأكداره، ومن ذلك: ما علمناه نَبِيّنا صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاسمع أَيُّهَا المهموم، وأنت أَيُّهَا المكروب، وأنت يا من ضاقت عليك الدنيا بهمومها وغمها وكربها!
قَالَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيحين: «دعوة أخي ذي النون، ما دعا بها مكروبٌ إِلَّا فرَّج الله كربته: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ»[1]، وَقَالَ الله جَلَّ وَعَلَا: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، استجاب الله نداءه، واستجاب الله استغفاره وابتهاله إليه، ونجَّاه من الظلمات الثلاث: من ظلمة البحر، وظلمة اَللَّيْل، وظلمة بطن الحوت، لمَّا لجأ صادقًا موحدًا إِلَىٰ ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ.
هٰذَا الذِّكْر يا عباد الله متنوعٌ كَثِيْرًا، من لازمه وتعلَّمه، وعمل به؛ وُفِّق إِلَىٰ الخير العظيم، وصُرفت عنه أنواع الشرور الكثيرة والهموم والغموم.
واعلموا عباد الله! أن البدع في ذِكر الله جَلَّ وَعَلَا بدعٌ كثيرة، أحدثها هؤلاء المخرِّفون، وتتابع عليها، يظن النَّاس أنها من ذِكر الله الموصلة إليه، وهي تزيدهم بعدًا عن الله؛ لأنَّ الله أمرنا بذكره وعبادته، أمرنا بها بأن نستقيم عَلَىٰ ما علمنا نَبِيّنا صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ اعلموا عباد الله! أن أصدق الحديث كلام الله، وَخِيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَىٰ الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار، ولا يأكل الذئب إِلَّا من الغنم القاصية.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وعَلَىٰ آل مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالمين، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ إنَّا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا وبوجهك الكريم أن تحقق لنا فردوسك الأعلى من الجَنَّة، وأن ندخلها بغير حساب ولا عذاب، وأن تحل علينا رضاك يا ربنا، فلا تسخط علينا أبدًا، اللَّهُمَّ إنَّا نسألك الجَنَّة وما قرَّب إليها من قول وعمر، ونعوذ بك من النَّار وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، اللَّهُمَّ أظلنا في ظل عرشك، اللَّهُمَّ أظلنا في ظل عرشك يوم لا ظل إِلَّا ظلك، وأبردنا بعفوك يا عفو يا كرم، يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ اجعلنا من عبادك ممن إذا نُصحوا انتصحوا، وذُكِّروا تذكروا، ووعظوا اتعظوا، اللَّهُمَّ اجعلنا ممن رضيت عنهم رضاءً أبدًا، نحن وأنتم ووالدين ووالديكم ومشايخنا وولاتنا وأحبتنا من المسلمين، اللَّهُمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، أحيائهم وأمواتهم يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ فرِّج همَّ المهمومين، اللَّهُمَّ نفِّس كرب المكروبين، اللَّهُمَّ اقضِ الدين عن المدينين، اللَّهُمَّ اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ من أراد بنا أو بعبادك أو بالمسلمين سوءًا اللَّهُمَّ فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا ذا الجلال والإكرام، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه عَلَىٰ نعمه يزدكم، ولذكر اللَّهِ أَكْبَرُ، والله يعلم ما تصنعون.
[1] أخرجه أحمد (1462)، والترمذي (3505) بنحوه.