الشباب وتنمية المجتمع في عهد الخلفاء الراشدين
الوصف: شكلت الولاية على البلدان في عهد الخلفاء ا
شكلت الولاية على البلدان في عهد الخلفاء الراشدين ميدانًا بالغ الأهمية في عملية تنمية المجتمع الإسلامي، وذلك لأن الوالي كان يمثل الدولة الإسلامية، وتصرفاته وأعماله تعكس بطبيعة الحال السياسة التي تنتهجها الدولة في التعامل مع أبناء الولاية ورعاية مصالحهم.
وأبناء الولاية، أية ولاية، كانوا في السابق خاضعين لنظام آخر، سواء النظام الساساني كما في الأقاليم الشرقية. أم النظام البيزنطي كما في بلاد الشام ومصر وغيرها، وكان على الولاة إذن أن يثبتوا عمليًا أن النظام الإسلامي الذي يريدون الولاية باسمه إنما يمثل فتحًا لأهل البلاد، وأن هذا الفتح تنعكس آثاره الإيجابية في كل ناحية من نواحي المجتمع؛ النواحي الاقتصادية والاجتماعية، وأيضًا الناحية الخاصة بالعلاقة بين الوالي من جهة وأهل البلاد من جهة أخرى، وفوق كل هذا يمثل فتحًا من الناحية الدينية.
من السطور السابقة تتضح لنا الأهمية البالغة التي كانت ترتبط بالولاة في إطار تنمية المجتمع الإسلامي، ونرجع إلى التاريخ، ونعيد إلى الأذهان ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أسند ولاية نجران إلى عمرو بن حزم الأنصاري، والذي كان آنذاك في العام السابع عشر من العمر، والذي نود أن نضيفه هنا هو طبيعة المهام التي كان على هذا الوالي أن يقوم بها، وحول هذه الجزئية تفيد المصادر بأن المهام الأساسية التي أنيطت به هي تعليم أهل نجران الإسلام، وأخذ الصدقات، ومعروف أن الصدقات التي كانت تجمع من القادرين في الولاية كان ينفق قسم منها في تنمية المجتمع المحلي وتقديم الخدمات الاجتماعية، والقسم المتبقي أو الفائض إن وجد كان يبعث به إلى المدينة العاصمة المركزية.
ومن الذين أسندت إليهم الولاية على البلدان وهم في طور الشباب عمير بن سعد الأنصاري، فقد أسند إليه الفاروق الولاية على دمشق والبثنية وحوران وحمص وقنسرين، والجزيرة، وإسناد الولاية لعمير بن سعد في هذه المناطق المتعددة تؤكد قدراته، وأيضًا تؤكد معرفة الفاروق لأبعاد هذه القدرات.
وقد بقي عمير بن سعد محل ثقة الفاروق حتى وفاة الأخير في أواخر سنة ثلاث وعشرين، مما يجزم بأن عميرًا كان يتمتع بالصفات التي تؤهله لكسب ثقة الخليفة الفاروق المعروف بمقاييسه الدقيقة للغاية، والذي لم يكن من أي من عماله، أيا كان، أن تشوب إدارته شائبة.
وقد يكون مناسبًا أن نشير إلى موقف حدث بين الفاروق من ناحية، والوالي عمير بن سعد من ناحية ثانية، وأعني بذلك الموقف الذي سأل فيه الخليفة عميرًا عن مبلغ الجباية الذي أحضره معه إلى المدينة المنورة، فقد رد عمير على هذا التساؤل قائلاً: الذي جبيته وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به.
وهذا يعني أن المبالغ التي تمت جبايتها قد أنفقت في عمليات تنموية لأهالي البلدان، التي يتولى إدارتها، ونتيجة لهذه الإجابة السديدة أمر الفاروق بتجديد ولاية عمير.
وهذا الموقف يقدم حقيقتين تتصلان بالتنمية، الأولى أن أموال كل إقليم، أو القسم الأكبر منها، كانت تنفق في المصالح التنموية الخاصة بالإقليم، حتى ولو استنفدت هذه المصالح كل أموال الجباية، والحقيقة الثانية أن هذه السياسة كانت تجد مساندة الخليفة، بل وتشجيعًا منه على انتهاجها.
وهذا الذي سارت عليه الدولة الإسلامية في التعامل مع الولايات التي قامت بفتحها يقدم صورة جديدة للتعامل مع أهل البلاد المفتوحة، جديدة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، فالمبالغ التي كانت تؤخذ لم تكن ثقيلة بحيث ترهق كاهل المواطنين، ثم إنها كانت توجه لتحقيق التنمية، وتقديم مختلف الخدمات لأهل الإقليم نفسه.
ولا شك أن هذه الصورة تعتبر مشرقة قياسًا بما كان يعامل به أهل البلاد من قبل النظم السابقة؛ الساسانية والبيزنطية.
عثمان وعبد الله بن كريز
ومن بين الولاة على الأقاليم من بين الشباب "عبد الله بن عامر بن كريز"، فقد أسند إليه الخليفة "عثمان"، أول عهده بالخلافة، الولاية على إقليم سجستان، وكان عبد الله آنذاك دون العشرين.
وفي هذه المناسبة يلزم أن نقول إن أول كتاب توجيهي بعث به الخليفة عثمان إلى ولاته جاء فيه: "... فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكون جباة، وأن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة، لم يخلقوا جباة.. ألا وإن أعدل السيرة أن ينظروا في أمور المسلمين فيما عليهم، فتعطوهم ما لهم وتأخذوهم بما عليهم".
ويسترعى الانتباه في كتاب الخليفة عثمان كلمتان: هما كلمة رعاة وكلمة جباة، ومن هاتين الكلمتين يتأكد أن جوهر وظيفة الوالي هي رعايته لمصالح الرعية، وهذه الرعاية لا تتحقق إلا إذا شملت مختلف الجوانب التي تمس حياة الرعية، وفي المقدمة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ولم يكن لهذه الجوانب أن تحظى بالرعاية إلا بالارتكاز على العمليات التنموية التي ترتفع بدخل الأفراد، وأيضًا تؤمن لهم الحاجات الاجتماعية.
لم تكن سجستان ولاية صغيرة، بل إنها كانت آنذاك أكبر وأهم من خراسان، ومع ثقل المهمة فقد برهن "عبد الله بن عامر" على القدرة الإدارية التي كان يتمتع بها مع أنه كان في باكورة شبابه راعيًا، نعم فقد سجل التاريخ لعبد الله أنه نجح نجاحًا كبيرًا في توطيد دعائم الحكم الإسلامي في "سجستان"، وجعل أهالي الولاية يرون في ولايته على بلدهم فتحًا، ولم يكن لمثل هذه النظرة أن تتحقق دون أن يستشعر أهالي البلاد الفرق الكبير بين ولاية عبد الله من ناحية، وولاية حكام الفرس السابقين من ناحية ثانية، ولم يكن لمثل هذا الفرق أن يظهر إلا من خلال ما قام به عبد الله من خدمات وعمليات تنموية لصالح أهالي الإقليم.
ونظرًا للنجاح الكبير الذي حققه عبد الله بن عامر في إدارة سجستان أسند إليه الخليفة عثمان ولاية البصرة، ثم ضم إليه ولاية الكوفة، وضم هاتين الولايتين الكبيرتين والهامتين تحت إدارته دليل قاطع على الكفاءة العالية التي كان يتحلى بها هذا الشاب الذي كان وقتها في منتصف العقد الثالث من العمر.
وفي الشمال الإفريقي، وابتداء من السنة الحادية والعشرين (641م) كان يوجد شاب آخر عهد إليه بالاستقرار في زويلة ومنطقتها، وذلك بهدف ترسيخ الإسلام في هذه المنطقة المتاخمة لمصر من الناحية الغربية، ذلك هو "عقبة بن نافع"، وقد استمر عقبة في مهمته هذه ومعه مجموعة من الشباب، وسجل لهم التاريخ أنهم نجحوا نجاحًا كبيرًا في إقناع الكثيرين من أبناء المنطقة باعتناق الإسلام ، وتاريخ عقبة بعد ذلك في فتوحات الإسلام لا يغفل عن أحد.
هؤلاء ثلاثة من الشباب أسندت إليهم الولاية على البلدان في عهد الراشدين، وقد آثرنا أن تكون ولاياتهم متباعدة حتى يكتسب الحكم على أدائهم صفة العموم، وكما اتضح فقد كان كل من الثلاثة موفقًا فيما أسند إليه، ولم يكن لهذا التوفيق أن يتحقق دون اكتساب محبة وولاء أهلي، وهذا المستوى من العلاقات لا يأتي من فراغ، بل يرتكز على قاعدة من أعمال الوالي في إطار مصالح أهل البلاد الاقتصادية والاجتماعية، وهؤلاء الولاة الثلاثة يمثلون الواجهة للعشرات، بل المئات والألوف من الشباب، إذ إن كل واحد منهم كان يستعين في تنفيذ أوامره وتحقيق خططه بآخرين من الشباب أيضًا، مما يؤكد أن العمليات التنموية المتنوعة والتي أنجزت في فترة الراشدين، سواء في الولايات التي أشرنا إليها، أم في الولايات الأخرى – هذه العمليات قد تحققت نتيجة لجهود الشباب، ولا نبالغ إذا قلنا إن الإسهام الكبير الذي قدمه الشباب في مختلف المجالات التنموية كان العمل الحاسم في النجاح الكبير الذي تحقق في كل أنحاء الدولة الإسلامية.
والله نسأل أن يوفق شباب المسلمين لحمل الأمانة، وأداء الرسالة، ونفع الأمة. آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.