الهجــرة ودور الشـباب
الوصف: لم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدين
لم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مجرد حدث تاريخي أدى دوره وانتهى أثره من حياة المسلمين بوصول المصطفى ورفقته إلى المدينة وانتشار الإسلام منها، لكن يبقى هذا الحدث ِالجلل مدرسة يتعلم منها المسلمون الدروس والعبر، ويأخذون منها العظات، ويسترشدون بها في طريق سيرهم إلى الله تعالى، فهي تبقى كالنور الهادي في ظلمة الطريق، والدليل الحادي عند تشعب المسالك والسبل.
ومن دروس الهجرة التي ينبغي أن يُذَكَّر بها ما كان للشباب فيها من دور هام وأثر كبير وفعال.. وإذكاء هذا الأمر وتذكير الشباب به ربما يكون محفزًا لهم ومبينا لأهميتهم ومدى قدرتهم على خدمة أمتهم ونشر دعوتهم، بل ونصرها على أعدائها والمشاركة الفاعلة في إخراجها من محنها..
ولعل من نافلة القول، ومن حقيقته أيضا، أن الشباب في أي أمة من الأمم، هم عمودها الفقري الذي يشكل عنصر الحركة والحيوية؛ إذ لديهم الطاقة المنتجة، والعطاء المتجدد، ولم تنهض أمة من الأمم غالبا إلا على أكتاف شبابها الواعي وحماسته المتجددة.
حتى دعوة الإسلام في حقيقتها إنما قامت على أكتاف الشباب التي ضبطت ووجهت بحكمة وحنكة الشيوخ وخبرتهم، ونحن نرى أن المؤمنين السابقين إلى الإسلام كانوا في غالبيتهم شبابا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمره أربعين سنة عند البعثة، وأبو بكر رضي الله عنه كان أصغر منه بثلاث سنين، وعمر رضي الله عنه أصغر منهما، وعثمان رضي الله عنه كان أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي رضي الله عنه أصغر الجميع، وهكذا كان عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، والأرقم بن أبي الأرقم، وسعيد بن زيد، وبلال بن رباح، وعمار بن ياسر، رضي الله عنهم، وغيرهم، كل هؤلاء كانوا شبابا، حملوا أعباء الدعوة على كواهلهم، فتحملوا في سبيلها التضحيات، واستعذبوا من أجلها العذاب والألم والموت، وبهؤلاء انتصر الإسلام، وعلى جهودهم وجهود إخوانهم قامت دولة الخلفاء الراشدين، وتمت الفتوحات الإسلامية الرائعة، وبفضلهم وصل إلينا الإسلام الذي حررنا الله به من الجهالة والضلالة والوثنية والكفر والفسوق.
وعودة إلى حدث الهجرة منذ خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وإلى أن وصل إلى غار ثور، ثم بقائه فيه ثلاثا، ثم بعد ذلك السير إلى المدينة المنورة، نجد أن المشاركين فيه بعد النبي صلى الله عليه وصاحبه هم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن أبي بكر، وأسماء بنت أبي بكر، وعامر بن فهيرة..
علي بن أبي طالب:
فأما علي رضي الله عنه: والذي ضرب مثالا للجندي الصادق المخلص لدعوة الإصلاح، والذي يفدي قائده بحياته، حين بات رضي الله عنه ليلة الهجرة على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأسه انتقاما منه، لأنه سهل لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاة، ولكن عليا رضي الله عنه لم يبال بذلك، ولم يرهبه بريق السيوف ولا أخافه لقاء الحتوف، فحسبه أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وقائد الدعوة.
هذا البطل الهمام كان يوم الهجرة في العشرين من عمره أو حواليها.
وقد قرأت لبعض أهل زماننا قوله: "إنني أعتبر أن ابن العشرين من أبنائنا مازال طفلا"!!..
ولا شك أن الفارق في التربية والنشأة.
عبد الله بن أبي بكر
وإذا تركنا عليا إلى عبد الله بن أبي بكر الصديق، نجد أنه كان فتى ذكيا ألمعيا، ذا فطنة نفاذة، وقريحة وقادة، وفهم ثاقب، وقلب واع، وتلق حسن لما يسمعه، فكان يبيت بين أهل مكة يسمع ما يكيدون به رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ويعرف الأخبار والأحوال ثم يذهب في الليل ليخبر بذلك رسول الله عليه السلام، فكان كما يقال صاحب المخابرات الصادق، وكاشف تحركات العدو. وكان في ذلك الوقت ابن بضع وعشرين سنة لا غير.
عامر بن فهيرة
وأما عامر بن فهيرة خادم آل الصديق فكان جنديا أيضا من جنود الهجرة، ولعل كثيرا من المسلمين لا يعرفون عامرا هذا.. مع أنه كان من السابقين إلى الإسلام، أسلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، أسلم وهو مملوك، وكان حسن الإسلام، وعذّب في الله، فاشتراه أبو بكر، فأعتقه.
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار بثور مهاجرين، أمره أبو بكر أن يروح بغنم أبي بكر عليهما، وكان يرعاها، فكان عامر يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلباها، وإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفّي عليه، فلما سار النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من الغار هاجر معهما، فأردفه أبو بكر خلفه.. فعامر كان ضمن ركب الهجرة كما ذكر ذلك صاحب كتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة (أسد الغابة 2/63) .
وشهد عامر بدراً وأحداً، وقتل يوم بئر معونة، سنة أربع من الهجرة، وهو ابن أربعين سنة، وقال عامر بن الطفيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قدم عليه: من الرجل الذي لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء دونه، قال: هو عامر بن فهيرة.(راجع ترجمته في أسد الغابة).
وإذا كان عامر قتل سنة أربع وهو ابن أربعين سنة فقد كان سنه وقت الهجرة بضعا وثلاثين سنة، وبالتحديد ستا وثلاثين سنة.. فأين شبابنا؟!
أسماء وعائشة ودور المرأة المسلمة
وإذا كان في دور عبد الله وعامر بن فهيرة ما يثبت أثر الشباب في نجاح الدعوات، وأثر تضحياتهم وفدائهم في النصر والغلبة. ففي موقف عائشة وأسماء رضي الله عنهما في الهجرة أيضا ما يثبت حاجة الدعوات الإصلاحية إلى النساء، ومدى ما يمكن أن يقدمنه من خدمات جليلة فهن أرق عاطفة، وأكثر اندفاعا، وأسمح نفسا، وأطيب قلبا، والمرأة إذا آمنت بشيء لم تبال بنشره والدعوة إليه بكل إمكانياتها، وحين ننظر إلى موقف أسماء بنت أبي بكر، ابنة السابعة والعشرين،ـ وكانت حاملا في نهايات أشهر حملها ـ وكانت تمشي من مكة إلى الغار كل يوم مرات، ثم تصعد الجبل إلى الغار وهي تحمل الطعام لنبيها وأبيها، فأي عزيمة تلك وأي همة.
ولم يكن موقفها هذا أعجب من موقفها من أبي جهل وأصحابه حينما أتوا إلى بيت أبي بكر بعد خروج أبيها مع رسول الله، يسألون عنهما تقول أسماء: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا...».
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم!
وأرقى من هذين الموقفين وأعظم وأجل ـ وأسماء كلها مآثر ومفاخرـ موقفها مع جدها أبي قحافة والذي ترويه بنفسها فتقول: خرج أبو بكر بماله كله خمسة آلاف درهم.. (فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قالت: فقلت: كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا. قالت: فأخذت أحجارًا فوضعتها في كوة في البيت، كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه. فقال: لا بأس إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. قالت أسماء: "ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك".
قال الشيخ الصلابي: "وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقًّا هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ، إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفاسفها، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره.
وأما عائشة رضي الله عنها فيكفيها من الهجرة أنها عاشت أحداثها ثم حفظت للأمة تلك الأحداث حين روت حديث الهجرة وهي الصغيرة التي لم تبلغ العاشرة من عمرها بعد..
لقد ضربت عائشة وأسماء رضي الله عنهما بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلا، هُن في أمس الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله.
وتاريخ الإسلام، بما فيه الهجرة وما قبلها وما بعدها، يدل على أن لجهاد المرأة في سبيل الإسلام صفحات بيضاء مشرقة، تؤكد لنا اليوم أن خطا النهوض الإسلامي ستظل وئيدة، قليلة الأثر في المجتمع حتى تشترك فيها المرأة، فتنشئ جيلا من الفتيات على الإيمان والخلق والعفة والطهارة، فهؤلاء أقدر على نشر القيم التي يحتاج إليها مجتمعنا اليوم في أوساط النساء من الرجال، عدا أنهن سيكن زوجات وأمهات، ومعلوم أن الفضل الأكبر في تربية كبار الصحابة ثم التابعين من بعدهم يعود إلى نساء الإسلام اللاتي أنشأن هذه الأجيال على أخلاق الإسلام وآدابه، وحب الإسلام ورسوله، فكانت أكرم الأجيال التي عرفها التاريخ في علو الهمة، واستقامة السيرة، وصلاح الدين والدنيا.
إن علينا اليوم أن ندرك هذه الحقيقة، وهي أنه كلما كثر عدد الفتيات العالمات بالدين، الفقيهات في الشريعة، الملمات بتاريخ الإسلام، المحبات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخلقات بأخلاقه وأخلاق أمهات المؤمنين، استطعنا أن ندفع عجلة الدعوة إلى الأمام دفعا قويا، وأن نقرب اليوم الذي يخضع فيه مجتمعنا الإسلامي لأحكام الإسلام وشريعته، وإن ذلك لواقع إن شاء الله.
وختاما أقول ما قاله صاحب فقه السيرة معلقا على دور الشباب في الهجرة يقول: "إننا نلمح في ذلك صورة مما يجب أن يكون عليه الشباب المسلم ذكوراً وإناثاً في سبيل الله عز وجل ومن أجل تحقيق مبادئ الإسلام وإقامة المجتمع المسلم، فلا يكفى أن يكون الإنسان منطوياً على نفسه مقتصراً على عباداته، بل عليه أن يستنفد طاقاته وأوجه نشاطه كلها سعياً في سبيل الإسلام، وتلك هي مزية الشباب في حياة الإسلام و المسلمين في كل زمن وعصر".
وإننا ننتظر اليوم الذي نرى فيه شبابنا كعلي وعبد الله وعامر رضي الله عنهم، ونرى فتياتنا كأسماء وعائشة رضي الله عنهما.. ونسأل الله أن يكون ذلك قريبا .. والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.