عش حياتك يوما بيوم

الوصف: "العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار وهو مسافر إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كتب له، فالعمر هو مدة سفر ا


صورة القسم 1

"العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار وهو مسافر إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كتب له، فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه تعالى، ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره: فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر، فالكيس الفطن هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه فيهتم بقطعها سالماً غانماً، فإِذا قطعها جعل الأُخرى نصب عينيه، ولا يطول عليه الأمد فيقسو قلبه ويمتد أمله ويحضره التسويف والتأْخير والمطل.

هكذا نصح ابن القيم كل المسلمين في كتابه "طريق الهجرتين:189"، وهو كلام محكم من ناصح أمين يرجو النجاة لمن استجاب له وأخذ بنصحه.

إنما نحن جميعا في سفر قسري "فإن من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر"، "والليل والنهار مطيتان تقربان كل بعيد، وتبليان كل جديد، وتأتيان بكل موعود"، ومحطة الوصول معروفة ولابد من الوصول إليها بما يحمد أو يذم.

"إنما أنت أيام فإذا مضى يوم مضى بعضك".. هكذا قال بعض الزهاد، وهي حقيقة، وإنما الأيام هي المراحل التي تسافر بها إلى مقصدك فإذا أحسنت السعي والسير فيها قرب وصولك ودنت سعادتك.

قال عمر بن ذر: اعملوا لأنفسكم ـ رحمكم الله ـ في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما.

فإذا كانت أيامك هي مراحلك الحاملة لك إلى الله الموصلة بك إليه وجب أن تستغلها أعظم استغلال وأحسنه وأعوده بالخير عليك؛ فإن ثمرة هذا العمل هي ما ستطعمه وتتذوقه بعد الوصول؛ كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها.. فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ (جني الثمار) يوم المعاد فعند الجذاذ يتبين حلو الثمار من مرها.

وابن قدامة رحمه الله يذكرك بهذا ويقول: "اغتنم ـ رحمك الله ـ حياتك النفيسة، واحتفظ بأوقاتك العزيزة، واعلم أن مدة حياتك محدودة ،وأنفاسك معدودة، فكل نفس ينقص به جزء منك والعمر كله قصير والباقي منه هو اليسير.

وكل جزء من عمرك جوهرة نفيسة لا عدل لها - أي ليس لها ما يعادلها لنفاستها - ولا خلف منها؛ فإن بهذه الحياة اليسيرة خلود الأبد في النعيم المقيم أو العذاب الأليم، وإذا عادلت هذه الحياة بخلود الأبد علمت أن كل نَفَس يعدل أكثر من ألف عام في النعيم المقيم الذي لا حصر له أو خلاف ذلك، وما كان هكذا فلا قيمه له - أي لنفاسته لا يُقدر بقيمه -
فلا تُضيع جواهر عمرك النفيسة بغير عمل ولا تذهبها بغير عوض. واجتهد أن لا يخلو نفس من أنفاسك إلا في عمل طاعة أو قربة تتقرب بها؛ فإنك لو معك جوهرة من جواهر الدنيا فضاعت منك لساءك ذهابها، فكيف تفرط في ساعاتك، وكيف لا تحزن على عمرك الذاهب بغير عوض؟!

وإنما أردت بهذه النقولات عن أئمة الإسلام أن أبين لك أن عمرك أغلى مما تظن ووقتك أهم مما تعتقد، ولن ينصلح أمرك ويعتدل سيرك إلا بأن تصلح يومك وتستغل وقتك ولحظتك التي تحياها الآن، فإن الله لم يكلفك عمل غد فلا تنشغل أنت برزق غد أو ما يحمله الغد..

وها هو ابن القيم يبين لك هذا الأمر ويجليه، فيقول: "هلم إلى الدخول على الله ومجاورته في دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء بل من أقرب الطرق وأسهلها، وذلك أنك في وقت بين وقتين وهو في الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولانصب ولا معاناة، وإنما هو عمل قلب، وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب، وامتناعك ترك وراحة، ليس هو عمل بالجوارح يشق عليك معاناته، وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وسرك؛ فما مضى تصلحه بالتوبة، وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية، وليس في الجوارح في هذين نصب ولا تعب، ولكن الشأن في عمرك ..وهو وقتك الذي بين الوقتين.. فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاحك، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكرت نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم" "الفوائد:151".

إن أكثر الناس ألهاهم طول الأمل، فهم يعيشون لمستقبلهم وينسون يومهم ووقتهم فكن أنت ابن ساعتك، وعش يوما بيوم، واجعل كل يوم هدفا تصل به إلى أعلى الدرجات في جنات عدن عند مليك مقتدر.
اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين.