من يأخذه بحقه
الوصف: فورات الاندفاع والحماس لا تغني فتيلاً ولا تنفع عند مجابهة الحقائق، فالواقع غير الخيال، وم
فورات الاندفاع والحماس لا تغني فتيلاً ولا تنفع عند مجابهة الحقائق، فالواقع غير الخيال، ومعاركة الأحداث غير مداعبة الأحلام، وبريق السيوف فوق الرؤوس ليس كبريق العواطف في النفوس، وليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.
ولقد يظن الإنسان في نفسه لأول وهلة عند دفقة الحماس أنه قادر على فعل المعجزات، لكن عندما يرجع البصر، ويتعمق في الفِكَر ويصحو من سكرته يعرف نفسه على حقيقتها، فيعود إلى رشده بعد غفلته
والدعاوى ما لم تقيموا عليها **** بينات أصحابها أدعياء
والنبي صلى الله عليه وسلم بنظرته الثاقبة، وخبرته بالنفس البشرية يعلمنا هذه المعاني الكبيرة خاصة في لحظات الحماسة، فقد روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفاً يوم أحد فقال: من يأخذ مني هذا ؟ فبسطوا أيديهم كل منهم يقول أنا أنا!! قال: فمن يأخذه بحقه؟ فأحجم القوم!! فقال سماك بن خرشة "أبو دجانة": أنا آخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين.
أرأيت إلى النفس البشرية كيف تندفع في غمرة الحماس.. رسول الله يأخذ سيفاً ويلوح به، والمعركة بين إيمان وكفر، وحق وباطل، والصحابة خرجوا ينصرون الله ورسوله، والسيف قد باركته يد رسول الله.. من يأخذ مني هذا؟... ويا لها من فرصة ذهبية نادرة يحظى مغتنمها بهذا الشرف العظيم.. ويتدافع الصحب الكريم ويبسطون أيديهم ليتناوشوه، وبريق السيف يكاد يخطف أبصارهم، وتتزاحم الأكف، وتهتف الحناجر وكأنها حنجرة واحدة.. أنا أنا، أنا الذي أريد شرف الضرب بالسيف الذي باركته يد رسول الله، لأني إذا ضربت به فكأنما يد رسول الله هي الضاربة لتوقع النكاية في أعداء الله، وينظر رسول الله - وهو القائد الفذ- إلى الجموع المتكاثرة، والحناجر الهاتفة، والحماسة الفائرة، ثم ينظر إلى السيف في يده المباركة، إنه سيف لا كالسيوف.. سيف له حق خاص، ووضع مميز.. ويلقي كلمته المدوية.. فمن يأخذه بحقه.. فيفترق الزحام، وتنزل الأكف، وتخمد اندفاعات البركان، وتغيب أنا أنا، إلا صوتاً واحداً، ويداً واحدة.. صوت صاحب عصابة الموت سماك بن خرشة أبي دجانة رضي الله عنه.. أنا آخذه بحقه يا رسول الله.. ولا أجد ما أعبر به عن مقولته هذه، وأتركه يعبر عن نفسه لأن حق آخذ هذا السيف أن يضرب به حتى ينحني أو ينكسر، لأن حقه أن يشق رؤوس الكفر المحاربة لله ورسوله والمؤمنين، لأن حقه أن تفلق به هذه الرؤوس المشركة المعتدية فلقاً، لأن حقه الوفاء بما عَهِد به رسول الله. أدعه يعبر عن نفسه أصدق تعبير وقد وفى بما عاهد، وأخذ السيف وهو يرتجز:
أنا الذي عاهــدني خلـيلي .. .. ونحــن بالسفح لدى النــخيل
ألا أقوم الدهر في الكيَّول .. .. أضرب بسيف الله والرسول
والكيول: آخر الصفوف في الحرب
وما أحسن ما قاله الإمام حسن البنا في مثل هذه المقامات الفائرة غير محسوبة النتائج :
ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة.