رعاية عقول الشباب
الوصف: إن الشباب زهرة العمر، وزمن اشتداد النفس، ومئنة طموحها، وتسارعها إلى تحقيق رغباتها، وتحصي
إن الشباب زهرة العمر، وزمن اشتداد النفس، ومئنة طموحها، وتسارعها إلى تحقيق رغباتها، وتحصيل مطالبها، ولا يكاد المرء ينجز شيئاً في حياته، تبقى له به آثارٌ واضحةٌ وأعلامٌ منشورة إلا كان مبتدأ أمره سنَّ الشباب. قال مالك بن دينار: "إنما الخير في الشباب"(حلية الأولياء 2/373)..
فهذا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أول إيمانه ومفتتح نظره في حق ربه، وإبطال الشرك، كان وهو بعدُ فتىً في عمر الشباب، إذ قال قومه وقد رأوا ما حل بآلهتهم من تكسير، {
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
}[الأنبياء:60].
وأصحاب الكهف الذين فرّوا بدينهم، وأبوا دين قومهم المشركين، هم شباب صالحون، كما قال الله عنهم: {
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
}[الكهف: 13].
فلا يُعجب حينئذٍ من نشاط الشباب، وحماستهم، ورغبتهم في تحقيق شيء؛ لأنهم يملكون قدرات ومقومات تمكنهم من تذليل الصعب، وتليين الصلب.
وهذه القوة المقترنة قدراً بسن الشباب، يذكيها المحرك الوجداني؛ لأن كمال العقل يأتي بعد بلوغ الأشد، فيكون المحرك العقلي عند الشباب ضعيف التأثير، لا يفي بهدايتهم للأمثل، ولا يقيهم شر الأخطل.
وإذا سيق إلى نفوس الشباب حديث العاطفة، وسرت مشاعر الوجدان فيها، تحيَّز العقل في منأىً بعيدٍ، ووقع الشباب في المحذور والمحظور، وصُدِّق قول القائل: "الشباب شعبة من الجنون".
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إياك وعثرة الشباب"(مستدرك الحاكم)، وفي لفظ: "اتق طيرات الشباب -أو قال- غرات الشباب"(مصنف عبدالرزاق: 4/407).
وبحسب الدائرة التي يدور فيها المحرك الوجداني تتوجه همم الشباب، فإذا حركت عزائمهم إلى طلب العلم انبعثوا إليه، وإذا حُرِّكت إلى العمل الإغاثي رأيتهم مهطعين إليه، وإذا نودوا إلى بذل النفس في الجهاد تسارعوا زرافات ووحداناً. قال عطاء الخراساني: "طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ"(حلية الأولياء:5/196).
قال أبو المليح: قال لنا ميمون بن مهران ونحن حوله: "يا معشر الشباب قوتكم اجعلوها في شبابكم ونشاطكم في طاعة الله".
وقال الجنيد: كان السري يقول لنا ونحن حوله: "أنا لكم عبرة يا معشر الشباب، اعملوا فإنما العمل في الشبوبية"(الحلية:10/126).
ومن هنا تنشأ أهمية ملاحظة توجيه الشباب، والاجتهاد في توجيههم وجدانياً إلى الأنفع بحسب الزمان والمكان، مع تنمية عقولهم وإنارة أفكارهم بهدايتهم للأقوم.
أمانة عظيمة
إن رعاية عقول الشباب أمانة ملقاة على أعناق ولاة الأمر والعلماء، والأمهات والآباء، وتحقيقها ممكن ببعث جملة من الأصول، وغرسها في نفوس الشباب، ومتابعتها بعين الملاحظة دون غفلة؛ فإنها متى تمكنت منها وقتهم مضلات الفتن، وكانوا بها في حصن حصين من لهب المحن، وإذا أهملت هذه الأصول صار الشباب صيداً سهلاً لدعاة الشهوات والشبهات.
فمن تلك الأصول:
الحرص على تنشئتهم في كنف صاحب سنة،
لا تحركه الأهواء والآراء، بل يدور مع حكم الشريعة الغراء، فحيثما كانت كان.
قال أيوب السختياني: "إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله - تعالى- لعالم من أهل السنة"(اللالكائي).
وقال ابن شوذب: "إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها".
فالمحاضن الشبابية كالمدارس والنوادي والحلق والمراكز والمعاهد يجب أن تكون تحت بصر سنيٍّ يتابع مناشطها، ويوجه أنشطتها، ويضع خطط استفادة الشباب منها، مقتبسة من مشكاة الوحي، ومستنبطة من معين الشرع.
وإذا صارت مساسة من محطوم بشبهة أو منهوم بشهوة، مصدود عن السنة، مفارق للشريعة، مجاف لعلمائها، أضرت بالشباب؛ لأن مصدر توجيهاته، ومنبع تعليماته: الآراء والأهواء.
ومن تلك الأصول أيضاً:
غرس تعظيم الأكابر في نفوس الشباب،
وتثبيت كونه مقتضى الشريعة والعقل.
فأمَّا الشرع: فدلائل هذا الأصل فيه كثيرة؛ منها ما رواه البخاري ومسلم عن بشير بن يسار مولى الأنصار عن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة أنهما حدثاه: "أن عبد الله بن سهل ومُحيصة بن مسعود أتيا خيبراً فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل، فجاء عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة ابنا مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتكلموا في أمر صاحبهم فبدأ عبد الرحمن وكان أصغر القوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
((كبر الكبر))
، قال يحيى: يعني ليلي الكلام الأكبر، هذا لفظ البخاري، وقد بوب عليه باب: إكرام الكبير، ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال.
ومنها: ما رواه البخاري ومسلم - واللفظ للبخاري - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير ]، فجعل حقاً على الصغير أن يبتدئ الكبير بالسلام.
ومنها: ما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما-: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا](رواه أبو داود).
فمن دين الإسلام، وعلامات المسلمين التي يفارقون بها غيرهم تعظيم الكبير؛ لأن له حقاً اختص به دون غيره. قال علي - رضي الله عنه -: "الرجال قبل النساء والكبار قبل الصغار".
وهذا هو مقتضى العقل أيضاً؛ فإن السابق إلى أمرٍ أعرف به من غيره، ومن خرج من رحم أمه إلى الحياة الدنيا أعرف بها ممن تأخر، ولا يكاد يخرج عن هذا الأصل إلا النادر الذي لا يبنى عليه.
ومن تلك الأصول أيضاً:
إرشادهم أن تعظيم الكبار
ليس ناشئاً من مجرد الكبر في السن؛ بل لقوة العقل وحسن التدبير واقتران البركة بهم. فوفور العقل لا يكون إلا ببلوغ سن الأشد؛ كما قال الله - عز وجل -: {
حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
}[الأحقاف:15]، فابن الأربعين فما بعدها من السنين وافر العقل، وما دون تلك السن لم تكتمل قوة عقله، ولا اتسق ميزان تفكيره.
وأخرج ابن حبان وغيره عن ابن عباس – رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [
البركة مع أكابركم
](رواه ابن حبان)، وروي موقوفاً، وهو أصح، ومثله لا يقال بالرأي.
فمباركة الأعيان والأفعال أمرٌ مرده إلى النقل المحض. فهذان شيئان جليلان أوجبا تعظيم الكبار:
أحدهما: وفور العقل، وهو أمر حسي يدرك بمطالعة أحوالهم.
والآخر: اقتران البركة بهم، وهو أمر معنوي عرف بطريق الشرع.
فمخالفتهم ومفارقة طريقهم وغمط حقهم تؤذن صاحبها بقلة العقل ومحق البركة.
روى حكيم بن قيس بن عاصم: أن أباه أوصى عند موته بنيه فقال: "اتقوا الله، وسودوا أكبركم؛ فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا آباءهم، وإذا سودوا أصغرهم أزرى بهم ذلك في أكفائهم". رواه البخاري في الأدب المفرد، وبوب عليه باب تسويد الأكابر.
ومن تلك الأصول أيضاً:
تعويد نفوسهم رد الأمر إلى أهله؛
لأن أهل الدار أدرى بما فيها، والقائمون على شأن أعلم بما يصلح به من غيرهم، وفي التنزيل: {
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا
}[النساء:83]، فهذه الآية في وجوب رد أمر تدبير الولاية وأحوال الرعية إلى أولي الأمر بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن خلاف ذلك من اتباع الشيطان.
وأولوا الأمر هم أصحاب السلطان والحكم، وأهل الفتيا والعلم، فالأولون الأمراء، والآخرون العلماء، فلا مناص من رد الأمر إليهم عند من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ لأن ذلك حصر فيهم من طريق الشرع.
وإنما رد الأمر إليهم لأنهم أهله، فهم أعرف بتدبيره، وأبصر بتقريره، ومن زاحمهم فيه فهو مشتغل بما لا يعنيه، ومقتحم ما يعنّيه، إذ ذلك ضلال من كيد الشيطان، والمعصوم من عصمه الله.
ومن تلك الأصول أيضاً: تنمية روح السكينة والتؤدة في نفوس الشباب، وتكريه العجلة إليهم وتحذيرهم منها، ففي السكينة نيل المراد، وفي الاستعجال فواته.
ولهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في مناسك الحج بقوله: [ السكينة، السكينة ](البخاري ومسلم)، إرشاد إلى الحاجة إلى تأكيدها إذا ازدحم الخلق واضطربوا في سيرهم بالأبدان، وهم أحوج إلى مثل ذلك إذا اضطربت أفكارهم، وضاقت صدورهم، واختلط الحابل بالنابل؛ لأن السكينة تكسب صاحبها عقلاً يقوده إلى وضع الأمور في نصابها، ومعرفة الصواب فيها، بخلاف الاستعجال الذي يجر صاحبه إلى تصرفٍ طائشٍ، ورأي فطيرٍ.
وعند الترمذي من حديث سهل بن سعد الساعدي –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [ الأناة من الله، والعجلة من الشيطان ].
وروى ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني عن محمد بن موسى بن بقيع الحارثي عن أبيه عن رجل من قومه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [
الأناة في كل شيء خير
].
والأناة: هي التثبت وترك العجلة، وعند الطبراني في المعجم الكبير: "أن الحسن بن علي بن أبي طالب –رضي الله عنهما- سأل أباه عن أشياء، منها أن قال: فما الحزم؟ قال: طول الأناة والرفق بالولاة، قال: فما السفه؟ قال: اتباع الدناءة ومصاحبة الغواة".
وقال الفضيل بن عياض: "كان يقال من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرة قلوبهم خلائق ثلاثة: الحلم، والأناة، وحظ من قيام الليل".