فتية أشاد بهم القرآن

الوصف: يعتبر كثير من الناس ـ خصوصا علماء النفس والتربية في العصر الحديث ـ فترة المراهقة وبداية ال


صورة القسم 1

يعتبر كثير من الناس ـ خصوصا علماء النفس والتربية في العصر الحديث ـ فترة المراهقة وبداية الشباب مشكلة كبيرة وعقبة كؤود في مستهل حياة الإنسان، يتوقف عليها حياته ويتشكل فيها مستقبله.

والحقيقة أن هذه مشكلة رغم تواجدها في أكثر بلدان العالم ـ إن لم يكن جميعها على الإطلاق ـ إلا أنها لم يكن لها وجود كبير في أوائل تاريخ الإسلام، ودولته الفتية؛ ذلك أن التربية والتنشئة وتوجيه الاهتمامات هو أهم المؤثرات في هذه الفترة وفي تشكيل العقل وأولوياته ونظرته للحياة وطريقة تعامله معها وطبيعة دوره فيها.

ولما كان الإسلام يهتم منذ اللحظة الأولى بتكوين العقل الإنساني والقلب والروح، وكانت التوجيهات التربوية الربانية والنبوية ترتب حياة المسلم وتعتني بتكوينه الفكري والعقدي والعبادي العملي، وفي ذات الوقت كان المجتمع يتكاتف من أجل إتمام هذه التنشئة على أحسن ما يكون. ومن ثم لم تكن هذه المشكلة بالضخامة الموجودة فيما بعد، وتاريخ الإسلام وأبطاله الكبار العظام قدرا، واليافعين عمرا يتعجب لها التاريخ ويقف لها إجلالا وإكبارا.

والواقع أنه كلما بعد الناس عن توجيهات الكتاب الكريم والسنة النبوية، وتكاسلوا وتجاهلوا طريقة الوحي في التربية ظهرت لهم مشاكل كان من أهمها وأكثرها تهديدا للمجتمع مشكلة الفتوة وأوائل الشباب.

والقرآن الكريم وهو المحضن التربوي الأول كان من ضمن أساليبه في التربية ضرب الأمثال، وإظهار القدوة الحسنة ليتأسى بها المسلمون، وقد ضرب لنا أمثلة وأورد لنا نماذج لفتية رغْم حَداثة أسنانِهم فهم لم يُقاوِموا نزَق شهوةٍ، أو شُهرة، أو طيش الشباب وتَصابيهم، إنَّهم لم يُعلنوا التمرُّد على قِنِّينَة خمر أو جلسة مع غانية، أو حتى الانشغال بما ينشغل به أترابهم وأقرانهم.. كلا، الأمر أعظم مِن ذلك!

نماذج ثلاثة، أبطالها فتية لا يَملكون قوة مادية إلا جذوة الإيمان تَشتعل في قلوبهم، ويقين بالله يملأ نفوسهم، ومحبة أبت إلا أن تَنتصر لله وتقول كلمة حق في وجه حاكم مشرك كافر وفاجر جائر ظالم.

لقد كان إبراهيمُ فتًى يافعًا حينما حطَّم الأصنام، وكان الذين احتموا بالكهف هربًا بإيمانهم من إكراه قومهم واضطهادهم والواقع السيئ فتيةً، وكان الذي تصدَّى للملك الطاغية الذي فتَن الناس في دينِهم وادَّعى الألوهية فتى أيضًا.

إبراهيم فتى بأمة:
فإبراهيم - عليه السلام - كان حين انتفض على عبادة الأوثان والأصنام فتى، ولكنه فتى بأمة كاملة، { إن إبراهيم كان أمة }، عندما رأى الآلهة التي تتوجَّه إليها البلدة بأكملِها كلَّ يوم في عبادتها وقضاء حوائجها، لم يقبل أن يقف موقف المتفرج، ولكنه قرر أن يقيم على قومه الحجة بأن أصنامهم لا تصلح لأن تعبد وأن تتخذ آلهة من دون الله، فقرر تحطيم الآلهة، رمز الديانة والقداسة، ليؤكد للناس حقيقتها فلربما ثابوا إلى رشدهم وعادوا إلى ربهم.

هل كان إبراهيم يَجهل مصير ما سيُقدُم عليه؟ كلا، كان يُدرك جيدًا أنَّ الموت هو مصيره المَحتوم، ومع هذا لم يُبالِ ولم يتردَّد، وجعلها جذاذًا ليُقيم عليهم حجَّته الدامِغة؛ إنها جَمادات لا تنفَع ولا تضرُّ، ولو كانت كذلك لنفعَت نفسَها أولاً: { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ }[الأنبياء: 60].

فتية آمنوا بربهم:
وفي المشهد الآخَر، أولئك الفِتية الذين عافَتْ قلوبهم الشِّرك، فلم يكن أمامهم إلا أن يفرُّوا بدينِهم وبإيمانهم مِن أمام طاغية يقود قومه في شركهم وكفرهم برب الأرباب سبحانه جل في علاه. هل كانوا لا يُدركون خطورة ما أقدَموا عليه، كلا، كانوا يعلمون أنهم سيُفارقون الوطن وما فيه مِن أحباب، مقابل ماذا؟ مقابل العقيدة، فهانت عندهم كل هذه المحبوبات ليَفوزوا بحبِّ الله تعالى فاستحقُّوا هذا التكريم؛ { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].

غلام أصحاب الأخدود:
ولا يقلُّ المشهد الثالث سخونةً عن سابقيه، وبطلُه فتى - بل غلام - صغير، يَقفُ وحيدًا كالطود الأشمِّ في وجه طاغية بلده الجبار المريد الذي حمل الناس على الشرك وادعى الربوبية وحمل الناس على تأليهه والكفر بمالك السموات والأرض، فتعالتْ نفس ذلك الفتى عما كان عليه أقرانه مِن اللعب واللهو، واستشعَرَ عظمة الفِتنة التي جاست خلال الديار وأجبَرَت الناس أن يَدينوا بالعبودية للطاغية، وصيَّرهم عبيدًا له من دون الله؛ فضحى بنفسه ووقف في وجه الشرك والكفر والجحود والطغيان حتى فتح الله قلوب الناس للإيمان، والعودة للإسلام، وإن كان قد دفع حياته مقابل إظهار الحق وإيمان القوم، ولكن لا يغلو على الجنة ثمن { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10].

لقد كانوا فتية ملأ الإيمان قلوبهم، وملك حب الله كل ذراتهم، فسمى بهم الإيمان وحلق في سماء التضحية في سبيل الحق ومواجهة الشرك ومقارعة أهله وفي سبيل نصرة الإيمان بالله رب العالمين، فأعلى الله مقامهم، وخلد في كتابه ذكرهم؛ ليكونوا عبرة لكل شاب، وحافزا لكل ناشئ.