الحفيظ
الوصف: الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فقد كان آخر ما تطرّقنا إليه من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى اسمَيْ: الرّقيب والشّهيد. ولماّ كان من مدلولات ومقتضيات هذين الاسمين الكريمين الحفظ، رأينا أن نشرح في هذه الحلقة اسم الله تعالى ذكره:
12- الحفيظ
وما أحوج الأمّة إلى معرفة معاني هذا الاسم العظيم، وأن تتعبّد ربّها بهذا الاسم الكريم، وتعيش تحت ظلال اسم الله الحفيظ !
ترى الكثيرين يضعون ثقتهم في كلّ شيء، وبكلّ شيء، ونسوا أنّ الله هو الحفيظ !
لا يصِيب الأمّة من بأس إلاّ اهتزّت قلوبهم، واضطربت أفئدتهم، وارتعدت فرائصهم، وما أيقنوا أنّ الله هو الحفيظ !
يقعد أحدهم عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، خشية أن يتأذّى أو يتضّرر، ولا يعي أو يتذكّر: بأنّ الله هو الحفيظ !
فتعال بنا – أخي الفضيل - لنتدارس شرح هذا الاسم الجليل، وذلك في نقاط أربع، أوّلها:
* أدلّة ثبوت الاسم:
والدّليل على أنّ (الحفيظ ) من أسمائه عزّ وجلّ قوله تعالى على لسان هود عليه السّلام:{إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: من الآية57] {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سـبأ: من الآية21] وغير ذلك من الآيات.
* معاني الاسم الكريم:
ولاسمه (الحفيظ ) معنيان:
1- أحدهما:أنّه يحفظ على العباد ما عملوه من خير وشرّ، ومعروف ومنكر وطاعة ومعصية، فإنّ علْمَه سبحانه محيط بجميع أعمالهم ظاهرها وباطنها.
وقد كتب ذلك في اللّوح المحفوظ وسمّاه حفيظا فقال:{وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: من الآية4].
ووكّل بعباده ملائكة كراما كاتبين ووصفهم بالحفظ {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10]..
فما من شيء، وما من حركة أو سكنة إلاّ وهي محفوظة عند الله تعالى، قال عزّ وجلّ:{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} [القمر].
2- الثّاني: أنّه الحافظ لعباده من المكاره والمساوئ.
فلا عاصم من السيّئات التي هي معايب إلاّ هو عزّ وجلّ، ولا حافظ من السيّئات التي هي مصائب إلاّ هو سبحانه.
ومن حفظه أن سخّر رسلا من الملائكة ومن النّاس، فوصف بعض ملائكته بالحفظة فقال:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّه} [الرّعد: من الآية11]، ووصف رسله بالحفظ فقال يوسف عليه السّلام:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم يحفظ الله بهم أمور الدّين والدّنيا بإذنه سبحانه وحوله وقوّته.
* أنواع حفظ الله تعالى لعباده: حفظ الله لعباده نوعان:
- حفظ عامّ لجميع مخلوقاته، إنسها وجنّها، حيّها وجامدها، مؤمنها وكافرها، برّها وفاجرها.
وذلك بتيسيره تعالى ما يقيها ويحفظها، وبما تهتدي به إلى مصالحها {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طـه: من الآية50]..{قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: من الآية42] {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63].
- حفظ خاصّ بأوليائه وأصفيائه.
يحفظهم عمّا يضرّ إيمانهم، أو يزلزل إيقانهم، من فتن الشّبهات، أو فتن الشّهوات، من كيد أعداء الجنّ والإنس.
ومن سعة رحمته تعالى أنّه يشملهم حفظه لهم إلى يوم خروجهم من هذه الدّنيا:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
ويبقى حفظه لهم إلى يوم لقائه:{لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]..
لذلك ثبت عن السّلف قولان في تفسر الحفيظ:
- الأوّل: الرّقيب، قاله ابن عبّاس رضي الله عنه، وهذا يقتضي حفظ العباد.
والثّاني: المحاسب، قاله السدّي وابن قتيبة، وهذا يقتضي حفظ الأعمال والأقوال.
وقد أشار ابن القيّم رحمه الله في " النّونيّة " (2/83) إلى كلا المعنيين، فقال:
(وَهُوَ الحَفِيظُ عَلَيْهِمُ وَهُوَ الكَفِيـ ـلُ بِحِفْظِهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍٍ عَانِ)
فحفظ الشّيء يقتضي مراقبته ومحاسبته.
* ثمرات معرفة هذا الاسم.
- الثّمرة الأولى: تحقيق عناية الله وحفظه:
إنّ ثمرات معرفة هذا الاسم العظيم كثيرة وعظيمة جدّا، وقد رأينا بعضها في شرح اسم (الرّقيب )، وذلك هو أحد معنيي هذا الاسم، فمن تعبّده باسم الحفيظ بمعنى الرّقيب، فراقب الله في أقواله وأفعاله، أكرمه الله تعالى بالحفظ من المكاره والمساوئ، جزاء وِفاقا، والجزاء من جنس العمل.
قال جلّ ذكره عن جزاء من يراقب الله تعالى في أعماله وأقواله، في سرّه وعلانيته:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32]، أي حفظه من أعظم مكروه على الإطلاق بسبب حفظه لربّه عزّ وجلّ، حيث وصفه الله من قبل:{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ}..
ومن السنّة ما رواه التّرمذي وأحمد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمًا فَقَالَ: (يَا غُلَامُ ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ..)..
قال ابن القيّم رحمه الله تعالى وهو يبيّن أسباب التخلّص من كيد العدوّ الحاسد:
" السّبب الثّاني: تقوى الله وحفظُه عند أمره ونهيه، فمن اتّقى الله تولّى الله حفظه، ولم يكِله إلى غيره، قال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: من الآية120].
وقال النبّي صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن عبّاس رضي الله عنه: (اِحْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ، اِحْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ) فمن حفظ الله حفظه الله، ووجده أمامه أينما توجّه، ومن كان الله حافظَه وأمامه فممَّن يخاف؟ ومن يحذر؟ " اهـ.
- الثّمرة الثّانية: تحصيل اليقين في الله:
فمن ثمرات معرفة هذا الاسم أنّ المؤمن يتيقّن من حفظ الله تعالى لدينه وشريعته، كما قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
ومقتضى هذا أنّ الله يحفظ حَمَلَتَه إن هم حفظوه، فكم من ضربة وجّهت من قديم الزّمان على مرّ هذه القرون من جميع الأعداء ولم يُسقِطوا حرفا واحدا من القرآن، ولا ضاعت سنّة من سنن النبيّ العدنان صلّى الله عليه وسلّم..
- الثّمرة الثّالثة: حفظ السنّة من الضّياع:
فقد حفظ الله الصّحابة رضي الله عنه لأنّهم حفظوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حفظوه في ذاته وأقواله وأفعاله.
روى مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ:
بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَسِيرُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ - أي:انتصف - وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ، فَنَعَسَ، فَمَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى تَهَوَّرَ اللَّيْلُ - أي: ذهب أكثره - مَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ مَالَ مَيْلَةً هِيَ أَشَدُّ مِنْ الْمَيْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، حَتَّى كَادَ يَنْجَفِلُ - أي:يسقط - فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:
(مَنْ هَذَا؟) قُلْتُ: أَبُو قَتَادَةَ. قَالَ:
(مَتَى كَانَ هَذَا مَسِيرَكَ مِنِّي؟) قُلْتُ: مَا زَالَ هَذَا مَسِيرِي مُنْذُ اللَّيْلَةِ. قَالَ:
(حَفِظَكَاللَّهُ بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ ).
واستجاب الله دعاء نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فحُفِظت مكانة أبي قتادة حتّى صارت الأمّة كلّها تلقّبه بفارس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعاش حتّى شهِد المشاهد كلّها، وتوفّي عام أربعين.
فما بالكم بمن أحيا سنن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وحفظها من الضّياع، وميّزها عن مظاهر الابتداع ؟ فلا شكّ أنّ الله حافظه.
وكيف لا يكون الله تعالى على كلّ أمر شهيدا، وعلى كلّ شيء رقيبا وحفيظا: ومن أسمائه وصفاته: السّميع والبصير والخبير؟
وهذا ما سنتطرّق إليه لاحقا إن شاء الله.
سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أننت، أستغفرك وأتوب إليك.