أبي بن كعب سيد القراء
الوصف: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير القرون وأفضل العالمين.. أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقه
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير القرون وأفضل العالمين.. أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا.. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ونصرة دينه، ونشر رسالته فاعرفوا لهم قدرهم؛ فإنهم كانوا على الحق المبين.
زكاهم الله في كتابه، وقبل منهم ورضي عنهم، وغفر لهم، وأدخلهم الجنة { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(التوبة:100).
وزكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد لهم بأنهم خير القرون على الأطلاق [خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم].
هم صفوة الأقوام فاعرف قدرهم .. وعلى هداهم يا موفق فاهتدي
واحفظ وصــية أحمد في صحبه .. واقطــع لأجلـهم لسـان المفسد
عرضـي لعرضــهم الفداء فإنهم .. أزكى وأطـهر من غمـام أبرد
فالله زكاهـم وشـــرف قــدرهـم .. وأحـلهــم بالـدين أعـلى مقـعــد
والحديث عن الصحابة عبادة، وإحسان، وزيادة إيمان.
ونعيش هذه اللحظات مع شمس من شموسهم، وسيد من ساداتهم، وعلم بارز من أعلامهم، إنه أبي بن كعب بن قيس الانصاري النجاري صاحب رسول الله وسيد المسلمين.
لقد برز أبي رضي الله عنه إلى المكانة العليا بين الصحابة، ولكن بروزه لم يكن في الإنفاق كما برز غيره وإن كان من الأجواد المنفقين، وما كان في كتابة الحديث وإن كان من العلماء المعدودين، ولا كان في القتال وإن كان من الشجعان المجاهدين؛ فما فاته مع النبي صلى الله عليه سلم مشهد.
وإنما كان بروزه ورفعته وتميزه الأكبر في مجال آخر هو الأعظم على الإطلاق.. كان تميزه في كلام الله في كتاب الله في القرآن: في حفظ القرآن، في تعظيم القرآن، في فهم القرآن، في تدبر القرآن، في تلقي القرآن من النبي وتعليمه لغيره من الصحب الكرام.
والقرآن حبل الله النازل من السماء إلى الأرض، من تمسك به وتعلق به رفعه الله إلى عليين [
إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين
]..
وقد تمسك صاحبنا بطرفه، وجعل يترقى ويترقى حتى بلغ منتهاه، ونال مرتبة لم ينلها غيره.. فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه القرآن.
روى البخاري ومسلم عن أبيٍّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: [
إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، (وفي رواية مسلم: إن الله أمرني أن أقرأ عليك {
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب
}) قال أبيّ: وسماني الله لك؟ قال: نعم. قال: وذكرت هناك؟ قال: نعم.. فذرفت عين أبي وجعل يبكي. وفي المسند أن أبيا حدث بهذا الحديث، فقال له عبد الرحمن بن أبزى: وفرحت بذلك؟ قال: وما يمنعني أن أفرح والله تعالى يقول:
{
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون
}.
إمام في العلم والعمل
أسلم أبي على يد مصعب بن عمير، وكان رجلا دحداحة يعني ليس بالطويل ولا بالقصير، وكان أبيض الرأس واللحية كما جاء في سير أعلام النبلاء.
وشهد بيعة العقبة الثانية والتي قال النبي عليه الصلاة والسلام لأهلها [
فإن وفيتم فلكم الجنة
].. وقد فعلوا رضي الله عنهم.
أخذ أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا، وكان رأسا في العلم والعمل.. وشهد مع النبي بدرا وجميع المشاهد، فهو بدري ـ وأهل بدر هم أفضل الصحابة والمقدمون بينهم ـ فنال شرف هذه المنقبة وهي قول النبي لعمر: [ وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم ].
لقد جمع أبي الفضائل، ولكن كانت شهرته الأكبر في ارتباطه بالقرآن..
فقد حفظ القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وعرضه عليه، وتلقاه منه، وكان يقول: "إني تلقيت القرآن ممن تلقاه من جبريل وهو رطب".
كان أبي من القلائل الذين جمعوا القرآن في حياة النبي صلوات الله وسلامه عليه.. قال أنس: "جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار: "أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت وأبو زيد رجل من الأنصار".
وكان أحفظَهم أبي، فقد روى أبو داود عن ابن عمر قال: [
صلى النبي صلاة فلُبِّس عليه، فلما انصرف قال لأبي: أصليت معنا؟ قال نعم. قال: فما منعك؟]
يعني أن تفتح علي، وهذه شهادة أخرى من النبي صلى الله عليه وسلم له بالحفظ والإتقان.
وقد توج هذا الإتقان بأرفع تزكية وأعلاها، فقد شهد له الرسول بأنه أقرأ الأمة؛ فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: [
أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أُبيّ بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح
]..
وقد عرف ذلك له بين الصحابة حتى قال عمر: "أقضانا علي، وأقرؤنا أبي".
وأمر النبي الصحابة أن يتعلموا منه ويأخذوا عنه فقال: [
استقرؤوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل
].
فهمه وفقهه:
كان لأبي ارتباط عجيب بالقرآن، فكان يختم كل ثمان، وكان ذا فهم في كتاب الله وصاحب تدبر ومعرفة، سأله النبي صلى الله عليه وسلم مرة كما في صحيح مسلم قال أبي: [
قال رسول الله: يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: {
اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
} قال: «فضرب في صدري وقال: وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ
].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه ويخصه في هذا الباب.. فقد روى الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله: [ ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها؟ قلت: بلى، قال: «فإني أرجو أن لا أخرج من ذلك الباب حتى تعلمها، ثم قام رسول الله فقمت معه، فأخذ بيدي فجعل يحدثني حتى بلغ قرب الباب، قال: فذكّرته فقلت: يا رسول الله، السورة التي قلت لي، قال: فكيف تقرأ إذا قمت تصلي؟ فقرأ بفاتحة الكتاب، قال: هي هي، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيتُه ].
حبه لرسول الله
كان أبي شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كثير الصلاة عليه، وهو الذي قال له:
يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك منها؟ قال: ما شئت، قال: الربع؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قال: النصف؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قال: الثلثين؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير، قال: يا رسول الله، أجعلها كلها لك؟ قال: إذًا تُكفى همك، ويغفر لك ذنبك
.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادله حبا بحب، فلما أصيب ذراعه يوم الأحزاب كان النبي عليه الصلاة والسلام هو يطببه، وقد كواه بنفسه فبرأ بأمر الله.
مجاب الدعوة:
كان أبي عبدا صالحا صاحب عبادة، وكان مستجاب الدعوة.. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قال عمر بن الخطاب: اخرجوا بنا إلى أرض قومنا، قال: فخرجنا فكنت أنا وأبي بن كعب في مؤخرة الناس، فهاجت سحابة، فقال أُبيّ: اللهم اصرف عنا أذاها، فلحقناهم وقد ابتلت رحالهم، فقال عمر: ما أصابكم الذي أصابنا؟ قلت: إن أبا المنذر دعا الله أن يصرف عنا أذاها، فقال عمر: ألا دعوتم لنا معكم؟".
وصيته بالقرآن:
جاءه رجل فقال له أوصني قال: "اتخذ كتاب الله إماما، وارض به قاضيا وحكما، فإنه الذي استخلف فيكم رسولكم، شفيع مطاع، وشاهد لا يتهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم، وحكم ما بينكم، وخبركم وخبر ما بعدكم".
وفاته
اختلف المؤرخون في عام وفاته، فقيل مات في العام التاسع عشر وقيل العشرين في خلافة عمر، وهو الأرجح، وقيل في خلافة عثمان ورجحه الواقدي.
وعندما توفي ضجت المدينة، وماج أهلها، وقالوا: مات اليوم سيد المسلمين.
اللهم ارحم أبيًّا، واغفر له، وارض عنه، واجمعنا به في جناتك جنات النعيم.