اشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل

الوصف: إنما أنت أيام، فإذا مضى يوم مضى بعضك". هكذا قالت رابعة لسفيان. قال بعض الشعراء:


صورة القسم 1

إنما أنت أيام، فإذا مضى يوم مضى بعضك". هكذا قالت رابعة لسفيان.
قال بعض الشعراء:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترز .. عليه من الإنفاق في غير واجب

ليس شيئ أغلى ولا أعز ولا أعظم ولا أثمن من العمر.. وأعظم علامات التوفيق أن توفق لاستعماله فيما ينفعك في دنياك أو يرفعك في أخراك.. كما أن من علامات الخذلان استعمال الزمان في غير مصلحة فضلا أن يكون في معصية ومفسدة.

وأعقل الناس من يستعمل عمره في الأهم ثم المهم، فالمهمات كثيرة والعمر قصير، وأسعدهم من يجعل لنفسه دائما شغلا بالحق وواجبا تسعى فيه، ولا يترك لها وقتا للفراغ ، فإنها إن لم تجد ما يشغلها من الحق انشغلت بالباطل، وإن لم تحمل على ما ينفع توجهت وتفرغت لما يضر.

وما عرف زمان فتحت فيه الأبواب لضياع الأعمار وقتل الأوقات مثل هذا الزمان؛ حيث فتحت أبواب الهوايات والأهواء على مصاريعها، فقنوات الرياضة لمحبي الرياضة، وقنوات الأفلام والمسلسلات لعاشقي هذا الفن بكل أنواعها العربية والأجنبية والتركية والمكسيكية، والألعاب لهواة الألعاب الإلكترونية والسوني والبلاي ستيشن لجميع الأعمار بحر لا ساحل له، وقنوات الخلاعيات والقذارات لضعفاء النفوس وقليلي الدين وعديمي المروءة والخلق هي الأكثر والأشهر.. ومن لا رغبة له في كل هذا فهناك النت ومواقع التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا بمنصاتها المختلفة والتي تحتاج إلى أعمار وأعمار لمتابعتها، فهي أوقات تنفق، وأعمار تسرق، وأزمنة تنتهب من بين أيدي أصحبها الذين يصدق فيهم قول الشاطبي رحمه الله:
فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا..

الفراغ أصل كل بلاء
وأصل هذا الضياع والشتات كله وأسه إنما هو الفراغ، وترك النفس بلا عمل.. فالنفس الفارغة العاطلة عن الخير ينشغل صاحبها بالباطل ولابد، فلا يزال يخرج من باب شر ويلج في غيره حتى يضيع عمره وينقضي وقته، وينفرط أمره.
كما يقول ابن القيم في كتابه "الجواب الكافي"109: "من الفراغ تأتي المفاسد، وتتوالى المعاصي على العبد في سلسلة مدمرة، تُضعِف الإيمان في القلب وتبعده عن مولاه، فمن فرغ من عمل جاد مثمر فلابد وأن يشتغل بما يضره ولا ينفعه، وقد قال الشافعي رحمه الله: نفسك إن لم تشغلها بالحق؛ وإلا شغلتك بالباطل".اهـ.
إن الشباب والفراغ والجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة

ويقول المناوي في فيض القدير 6/375: "اعلم أنه من الفراغ تكون الصبوة، ومن أمضى يومه في غير حقٍّ قضاه أو فرض أدَّاه، أو مجد أثَّله، أو حمد حصَّله، أو خير أسَّسه أو علم اقتبسه؛ فقد عق يومه، لقد هاج الفراغ عليك شغلًا .. .. وأسباب البلاء من الفراغ".

ولهذا كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "إني لأبغض الرجل أن أراه فارغًا، ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة" [حلية الأولياء:1/130].

وهذا الكلام من الإمام الشافعي وغيره، نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، كما يكون في النفس، كذلك يكون في القلب، وفي اللسان والجوارح.. فهي كلها إما أن تشتغل بالحق وإما فسوف تنشغل بضده..
يقول ابن القيم رحمه الله: "فهي النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وهو القلب إن لم تسكنه محبة الله عز وجل سكنه محبة المخلوقين ولابد، وهو اللسان إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو وما هو عليك ولابد، فاختر لنفسك إحدى الخطتين، وأنزلها في إحدى المنزلتين" [الوابل الصيب1/111].

ثم يزيد ابن القيم رحمه الله الأمر إيضاحا في كتابه الماتع الفوائد.. ويبين أن ترك الحبل للنفس على غاربه لتفعل ما تشاء، وتنشغل بما تهوى ولو كان باطلا، يمنعها من قبول الحق والانشغال به، فإن النفس إن انشغلت بالباطل حجبت عن الانشغال بالحق، وكذا القلب واللسان والجوارح، فيقول:
(قبولُ المَحلِّ لما يُوضع فيه مشروطٌ بتفريغه من ضدِّه، وهذا كما أنه في الذِّواتِ والأعيانِ؛ فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات: فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبةً؛ لم يبْقَ فيه لاعتقاد الحقِّ ومحبته موضع؛ كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبُه من النُطق بما ينفعُه إلا إذا فرَّغ لسانه من النطق بالباطل. وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يُمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرَّغها من ضدِّها. فكذلك القلبُ المشغولُ بمحبَّة غير الله وإرادته والشوق إليه والأُنْس به لا يُمكن شُغله بمحبَّة الله وإرادتِهِ وحبِّه والشوق إلى لقائه؛ إلاّ بتفريغِهِ من تعلُّقه بغيره، ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلاّ إذا فرَّغها من ذكر غيره وخدمته، فإذا امتلأ القلبُ بالشُّغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفعُ؛ لم يبق فيه موضع للشُّغل بالله ومعرفة أسمائِهِ وصفاتِهِ وأحكامِه."اهـ.

ويؤكد شيخ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله على هذا المعنى في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم:1/484" فيقول:
(العبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظم محبته له، ومنفعته به، ويتم دينه، ويكمل إسلامه.
ولذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقُص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه.
ومن أكثر من السفر إلى زيارات المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت الحرام في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة.
ومن أدمن على أخذ الحكمة والأدب من كلام حكماء فارس والروم لا تبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع.
ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام. ونظير هذا كثير... ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع، وكرهتها، لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافاً لا عليه ولا له لكان الأمر خفيفاً، بل لابد أن يوجب له فساد منه نقص منفعة الشريعة في حقه، إذ القلب لا يتسع للعوض والمعوض عنه)اهـ.

وخلاصة الكلام ما قاله سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: "إن الله خلق الأيدي لتعمل فإذا لم تجد في الطاعة عملا التمست في المعصية أعمالا.. فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك في المعصية".