الثّمرات الزكيّة من الإيمان بأسماء وصفات ربّ البريّة

الوصف: الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه


صورة القسم 1

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فهذا موضوع عظيم وجيه، يدرك أهمّيته كلّ سنيّ نبيه، ولا يجهل شأنه إلاّ كلّ جافٍ سفيه، فربّ منكر للحقّ لعجزه عن إدراك مغزاه، وقديما قيل: " من جهل شيئا عاداه ". فإنّنا سمعنا ولا نزال نسمع من يُنكر على أهل السنّة تعظيمهم لباب الأسماء والصّفات، ويستقبح كثرة ما جاء فيه من المصنّفات، ويرون أهل السنّة في الحضيض وهم في قمّة الجوزاء، ولسان قالهم: هذا الميّت لا يستحقّ هذا العزاء..

فاعلم – رحمني الله وإيّاك – أنّ ثمرات إثبات أسماء الباري سبحانه كثيرة، نورد بعضها على وجه الاختصار، فمن ذلك:

1- أنّ ذلك حقّ من حقوق الله تعالى.

فما من صفة كمال إلاّ والله أولى بالاتّصاف بها، وما من صفة نقص إلاّ والله أولى بالتنزّه عنها، وما قولك فيمن نفى الكلام عنك؟! وما قولك فيمن نفى القدرة عنك؟! أما يكون قد وصفك بنقص، وعاملك ببخس..؟! كذلك صفات الكمال يجب أن تُثبت للحقّ تبارك وتعالى. والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمرنا بأن نُعطِي كلّ ذي حقّ حقّه، وأعظم الحقوق على الإطلاق: حقوق الواحد الخلاّق.

2- أن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه.

وهذه هي الغاية المطلوبة منهم، لأنّه – كما يقول ابن القيم رحمه الله في " الصّواعق المرسلة " –:

" مفتاح دعوة الرّسل، وزبدة رسالتهم، معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تُبْنَى مطالب الرّسالة كلّها من أوّلها إلى آخرها " [ " الصّواعق المرسلة " (1/150-151)].

فالاشتغال بمعرفة الله، اشتغال بما خلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خلق له، وليس معنى الإيمان هو التلفظ به فقط دون معرفة الله، لأنّ حقيقة الإيمان بالله أن يَعْرِف العبد ربّه الّذي يؤمن به، ويبذل جهده في معرفة الله بأسمائه وصفاته، وبحسب معرفته بربه يزداد إيمانه.

3- أن العلم بأسماء الله الحسنى أصل كل العلوم.

يقول ابن القيم رحمه الله في " بدائع الفوائد ": (إنّ العلم بأسماء الله الحسنى أصل للعلم بكلّ معلوم، فإنّ هذه المعلومات سواه إمّا أن تكون خلقاً له تعالى أو أمراً، إمّا علم بما كوَّنه، أو علم بما شرعه، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه...) [ " بدائع الفوائد " (1/163)].

4- أن معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى من أعظم أسباب زيادة الإيمان.

قال الشّيخ عبد الرّحمن بن ناصر السّعدي رحمه الله:

" إنّ الإيمان بأسماء الله الحسنى ومعرفتها يتضمّن أنواع التّوحيد الثّلاثة: توحيد الرّبوبية، وتوحيد الإلهيّة، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي رُوح الإيمان ورَوحه [الروح: هو الفرح، والاستراحة من غمّ القلب]، وأصله وغايته، فكلّما زاد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه وقوي يقينه " [ " التّوضيح والبيان لشجرة الإيمان " للسّعدي ص (41) " ].

5- لولا إثبات الصّفات لتعطّلت العبادة.

فإنّ معرفة الله تعالى تدعو إلى محبّته وخشيته، وخوفه ورجائه، وإخلاص العمل له، وهذا هو عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله، إلاّ بمعرفة أسمائه الحسنى، والتفقّه في فهم معانيها:

- فإذا آمن العبد بصفات ربّه الدالّة على سعة علمة وإحاطته كصفات العلم والسّمع والبصر والمعيّة وغيرها أورثه ذلك كلّه الخوف منه تعالى وتعظيمه.

- وإذا آمن بصفة السّمع علم أنّ الله يسمعه فلا يقول إلاّ خيرا، وإذا آمن بصفة البصر والنّظر والعين والرّؤية علم أنّ الله يراه فلا يفعل إلاّ خيرا.. فما بالك بعبد يعلم أنّ الله يسمعه ويراه، وأنّه مطّلع على سرّه ونجواه؟!

- وإذا آمن العبد بصفات الله كاللّطف، والرّحمة، والعفو، والمغفرة، والتّوب، والسّتر فإنّه لا ييأس من روح الله، كما أنّه إذا آمن بصفة الغضب والمقت والأسف واللّعن والسّخط والكره لم يأمن مكر الله تعالى، وحينئذ يعبد العبد ربّه على جناحي الخوف والرّجاء، وهما جناحا طائر السّلامة.

- وإذا آمن العبد بصفات الله الدالّة على قهره وقدرته وجبروته وهيمنته وسلطانه علم أنّ الله ما كان ليُعجزه شيء أبدا، فيحسن الظنّ به، ويعلم أنّه ما من شيء إلاّ ومن ورائه حكمة، لذلك يحسن بنا أن نتذكّر هذه الصّفات في أيّام محنتنا، وساعات كربتنا، حتى نحسِن الظنّ بربّنا، وأنّه تعالى عند وعده ولكنّ العبد ليس عند شرطه.

- وإذا آمن العبد بصفات الله تعالى وأسمائه استصغر نفسه واحتقرها أمام كلّ صفة، فلا ينازع الله تعالى في صفات الهيمنة والتكبّر والجبروت، وإذا تأمّل صفة الغِنى وتمام الملك والعطاء استصغر نفسه أمامها فيظلّ مفتقرا إلى مولاه، لا معبود بحقّ سواه.

- وإذا آمن العبد بصفة العزّة والغلبة والقوّة علم أنّ عزّته من عزّة الله فلا يخضع لأحد ولا يخنع لمخلوق.

6- تعبّد الله بها.

قال الله تعالى:{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.. والدّعاء هنا هو دعاء المسألة، ودعاء العبادة، أي: اسألوه بها، واعبدوه بها.

فعلى العبد أن يسعى إلى الاقتباس من نور صفات الله على ما يليق به، ويعبّر عن ذلك الإمام ابن القيّم رحمه الله بـ (تعبّد الله بها)، لا كما يقول بعضهم: يتخلّق بها.. ومن المعلوم لدى أرباب الفطر السّليمة والقلوب القويمة، أنّ المحبّ يحبّ أن يتّصف بصفات محبوبه، كما أنّ المحبوب يحبّ أن يتصف محِبّه بصفاته.. لذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحثّ على الأحسن والأفضل ويذكّر النّاس أنّ الله يحبّها بقوله: (إِنَّ اللهَ عَفُوٌّ يُحِبُّ العَفْوَ ).. (جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ).. (طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً)..

7- التّسليم والانقياد.

فإنّ صفات الله تعالى الخبريّة كـ(الوجه، واليدين، والأصابع، والسّاق، وغيرها) تكون كالاختبار للعباد، فمن آمن بها على ما يليق بالله تعالى – دون تكييف أو تمثيل – وقال كما علمه ربّه:{ كُلٌٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا }، فقد فاز فوزا عظيما، ومن قدّم عليها ذوقا أو عقلا، ولم يتّبع وحيا ولا نقلا، فقد خسر خسرانا مبينا.. فالإيمان بالأسماء والصّفات تمام التّسليم والتّوحيد..

8- أنّ إحصاءها سبب من أسباب دخول الجنّة.

روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ).

ولنا مع هذا الحديث وقفتان:

الوقفة الأولى: في بيان معنى الإحصاء: وقد اختلفوا في المراد بإحصائها:

فقال البخاري وغيره من المحقّقين: معناه: حفظها، وهذا هو الأظهر; لأنّه جاء مفسرا في رواية أخرى عند مسلم: (من حفظها).

وقيل: أحصاها: عدّها في الدّعاء بها.

وقيل: أطاقها أي: أحسن المراعاة لها، والمحافظة على ما تقتضيه، وصدق بمعانيها، ويأتي الإحصاء بمعنى الإطاقة، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: (اِسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا )، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: (لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ).

والصّواب ما ذكره ابن القيّم رحمه الله في " بدائع الفوائد " أنّ الإحصاء مراتب:

" - المرتبة الأولى إحصاء ألفاظها وعددها.

-المرتبة الثانية فهم معانيها ومدلولها.

-المرتبة الثالثة دعاؤه بها كما قال تعالى:{ وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف من:180]، وهو مرتبتان:

إحداهما: دعاء ثناء وعبادة.

والثّاني: دعاء طلب ومسألة " اهـ [ " بدائع الفوائد " (1/172)].

الوقفة الثّانية: هل أسماؤه تعالى محصورة؟

قال الحافظ وهو يتكلّم عن حديث التّسعة والتّسعين اسما: " واتّفق العلماء على أنّ هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى، فليس معناه: أنّه ليس له أسماء غير هذه التّسعة والتّسعين، وإنّما مقصود الحديث أنّ هذه التّسعة والتّسعين من أحصاها دخل الجنّة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنّة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ولهذا جاء في الحديث الآخر: " أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ ".

وأمّا تعيين هذه الأسماء فقد جاء في الترمذي، وهو ضعيف، وفي بعض أسمائه خلاف.

هذه بعض ثمرات إثبات أسماء الله وصفاته القلبيّة والسّلوكيّة، وهناك ثمرة عظيمة قلّ من يُنبّه عليها، ألا وهي:

9- إغلاق باب التّأويل والتّحريف على الباطنيّة والفلاسفة والملاحدة.

فقد ظهر الفلاسفة والطبعيّون، فأنكروا نصوص المعاد واليوم الآخر، وأوّلوها على غير وجهها، حتّى قالوا إفكا عظيما، وأنّ المقصود بها خلاف ظاهرها، كما ترى في " الرّسالة الأضحويّة " لابن سينا (ص 99)، فلمّا ردّ الأشاعرة عليهم، قال الفلاسفة: ما جئنا بجديد، إنّما اتّبعنا آثاركم في تأويا الصّفات، فأوّلنا نصوص المعاد.

وقام الباطنيّة المتصوّفة فأنكروا نصوص الشّريعة، وقالوا نحن علماء الحقيقة، ولا يحرم علينا ما حرُم على غيرنا، ولا يجب علينا ما يجب على غيرنا، والمقصود بالصّلاة خلاف ظاهرها، وبالزّكاة خلاف ظاهرها، وقالوا: إنّما أوّلنا كما أوّلتم نصوص الصّفات..

فأُلزم الأشاعرة بقولهم، ووقعوا في حبلهم، حتّى قال ابن رشد – رحمه الله وعفا عنه – في " فصل المقال " (ص 49):

" يشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة – أي: المعاد – من العلماء معذورا، والمصيب مشكورا مأجورا " !!

وأُفحم الغزالي حتّى قال: " إنّما نستدلّ على المعاد بالكشف !! [الإحياء: (1/104)].

أمّا الّذين تشبّثوا بما كان عليه سلف الأمّة، وأثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه، لم يُلزِمهم الفلاسفة ولا الدّهريّون ولا الباطنيّون بشيء، لأنّهم من أوّل يوم أغلقوا باب التّأويل، وما على المحسنين من سبيل..

يقول ابن تيمية رحمه الله في " درء التّعارض " (5/10):

" ونُلزِم كلّ من سلك سبيل التّأويل بلازم لا ينفكّ عنه إلاّ مكابرةً، وهو أنّ ما يسلكه المتكلّمون من الأشاعرة وغيرهم في تأويل الصّفات، هو بعينه ما يسلكه الملاحدة الدّهريّة في إنكار ما أخبر الله به عباده من أمور اليوم الآخر والمعاد كابن سينا في " الرّسالة الأضحويّة "، وينتج عن هذا أحد ثلاثة أمور:

- إمّا الاعتراف بمنهج السّلف، والرّجوع إليه.

- وإمّا الاعتراف بتأويل الدّهريّة ومنكري المعاد.

- وإمّا الحيرة والشكّ كما وقع لكثير منهم " اهـ.

وسوف نرى إن شاء الله أنّه ما من صفة من صفات الله تعالى إلاّ وللإيمان بها ثمرات عظيمة، وآثار كبيرة، { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا } والحمد لله أوّلا وآخرا، باطنا وظاهرا، وصلّ اللهمّ على محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.