أحب إليك من نفسك

الوصف: حديثنا في هذه العجالة عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى الإمام البخاري ومسلم في صح


صورة القسم 1

حديثنا في هذه العجالة عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار ).

محبة رسول الله دين وإيمان، وهي أصل كل خير للعبد في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، وقد اجتمعت كلمة أهل العلم على أنه لا يتم إيمان العبد ولا يكمل إسلامه حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين..
جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )[متفق عليه].

ليس ذلك فحسب وإنما أيضا حتى يكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه.. فقد كان عمر رضي الله عنه يمشي مع النبي يوما فقال له: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا نَفْسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ل ا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكِ، قَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ الآنَ، وَاللَّهِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الآنَ يَا عُمَرُ )[رواه البخاري].

كل مسلم له حظ من محبة رسول الله صلى الله عليه فمقل ومستكثر، ولكن أن يكون أحد أحب إلى الإنسان من كل شيء حتى من نفسه التي بين جنبيه، فهذا هو الشيء الذي يصعب تصوره، وإذا أردنا أن نعرف مفهوم المحبة التي تبلغ هذا المبلغ فليس أمامنا بد إلا أن ننظر في فعل أهل المحبة الصادقة، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم قد رأوه وسمعوه ورافقوه وصاحبوه وعرفوه حق المعرفة، ورأوا من حسن خلقه وكريم شمائله ما لم يعرفه من لم يروه، فلما عايشوه وعاملوه وخالطوه وعرفوه حق المعرفة خالطت محبته قلوبهم، وسرت في عروقهم، وجرت مع الدماء في شرايينهم، وتشعبت في أرواحهم فلم يبق فيهم مكان إلا ملأته، ولا مسلك إلا دخلته. فلما امتلأت القلوب بمحبته تحركت الجوارح بطاعته، ونطقت الاقوال والأفعال باتباع سنته، ودللت المواقف على صدق ادعائهم، وتقديمه على أموالهم وأولادهم، وأزواجهم وآبائهم وأمهاتهم.

سئل علي رضي الله عنه ـ ابن عم رسول الله وزوج ابنته ـ: كيف كانت محبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ.

وروى الطبراني بسند حسن عن عائشة رضي الله عنها قال: (جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال يا رسولَ اللهِ إنكَ لَأَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي، وإنكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ في البيتِ فَأَذْكُرُكَ فما أصبرُ حتى آتِيَ فأنظرَ إليكَ، وإذا ذكَرتُ موْتِي وموتَكَ، عرفْتُ أنَّكَ إذا دخلْتَ الجنةَ رُفِعْتَ مع النبيين، وأني إذا دخلْتُ الجنةَ خشيتُ أن لَّا أراكَ!! فلم يردَّ عليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيئًا حتى نزل جبريلُ عليه السلامُ بهذِهِ الآيَةِ { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّيِّنَ وَالصِّدِّيقينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وحسن أولئك رفيقا }[النساء: ].
فاعجب لرجل لا يكون همه وخوفه ألا يدخل الجنة، وإنما خوفه أنه إذا دخل الجنة يكون في مكان أقل من مكان النبي صلى الله عليه وسلم فيحال بينه وبين رؤيته!!.

المرأة الدينارية
إن المرأة يموت زوجها فيذهب عقلها، ويطيش حلمها، ويهذي لسانها، فكيف إذا مات زوجها وأبوها وأخوها كلهم دفعة واحدة؟
امرأة من بني دينار أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحد (يعني ماتوا)، فلما نُعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان.. هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك يارسول الله جلَل.. تريد صغيرة.(انظر تاريخ الطبري والسيرة لابن إسحاق وابن المنذر). تقول له صلوات الله عليه وسلامه: إذا سلمت أنت فكل مصيبة بعد ذلك هينة بسيطة.

خبيب بن عدي
كثيرا ما طرقت أسماعنا وأسماعكم قصة خبيب بن عدي، أن قريشا لما أسرته في بعث الرجيع وذهبوا به ليقتلوه، قال له أبو سفيان: أَنشُدُكَ باللهِ يَا زَيد، أَتُحِبُّ أَنَّ محمدًا الآنَ عِندَنَا مَكَانَكَ نَضرِب عُنُقَهُ وَأَنَّكَ في أَهلِكَ؟ قال: والله ما أُحِبُّ أَنَّ محمداً الآنَ في مكانه الذي هو فيه تُصِيبُهُ شَوكَةٌ تُؤذِيهِ وَأني جالسٌ في أَهلي!!، فقال أَبو سفيان: مَا رَأَيتُ مِنَ الناسِ أَحداً يُحِبُّ أَحَداً كَحُبِّ أَصحَابِ محمدٍ محمداً ".

لم يكن هذا فعل خبيب وحده، كما أنه لم يكن قول أبي سفيان وحده، بل كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى أصحابه حوله ورأى كيف يتعاملون معه ويعظمونه ويوقرونه أيقن أنه أحب إليهم من نفوسهم وأغلى من أموالهم وأزواجهم وأولادهم وآبائهم وأمهاتهم.
جاء عروة بن مسعود الثقفي ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، فجعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكيف يتعاملون معه، ثم رجع إلى قريش ليخبرهم بما رأى فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

إنما المحبة الطاعة
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست مجرد ادعاء يدعيه الإنسان، ولا هي حلوى يأكلها المسلم احتفالا بيوم مولده، ولا هي سرادقات تقام ليتمايل فيها الناس وينشدون الأشعار، وإنما المحبة معناها تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.

معناها أن نتعلم سنته وأيامه، وأقواله وأعماله لنتأسى بها ونتشبه به، ونتمسك بهديه وطريقته.

معناها: أن نتعلم شريعته ونتحاكم إليها ونحاكم إليها، ولا نقبل بها بد لا، نقيمها على أنفسنا وفي بيوتنا.

معناها أن نبذل الجهد في نشر دينه، وتبليغ رسالته، ورفع رايته فوق كل راية، وإيصال دعوته إلى كل مكان على الأرض.

إن هذه المحبة التي ملأت قلوب هؤلاء الكرام لم تكن شيئا وقر في القلب وفقط وإنما أيضا صدقها العمل، فكانوا أحرص الناس على طاعة أمره، وأبعد الناس عن ما نهى عنه، وأعلم الناس بأقواله، وأعمل الناس بسنته وأطوع الناس لأوامره، وأسرعهم في مرضاته.. وكل محبة لا يصدقها فعل هي مجرد دعوى ردها الله في كتابه كما قال الحسن البصري رحمه الله: ادعى قوم محبة النبي صلى الله عليه وسلم فابتلاهم الله بهذه الآية { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْكَٰفِرِينَ }[آل عمران: 31، 32].