القصة في القرآن الكريم
الوصف: لم يعتمد القرآن الكريم أسلوباً واحداً لإيصال رسالته إلى الناس، بل تعددت أساليبه وتنوعت، ف
لم يعتمد القرآن الكريم أسلوباً واحداً لإيصال رسالته إلى الناس، بل تعددت أساليبه وتنوعت، فهو حيناً يعتمد أسلوب الحوار، وحيناً آخر يعتمد أسلوب ضرب المثل، وتارة يعتمد أسلوب التربية النفسية والتوجيه الخلقي، إلى غير ذلك من الأساليب التي لا تخفى على من تأمل وتدبر كتاب الله العزيز.
وأسلوب القصة من الأساليب التي اعتنى القرآن الكريم بها عناية خاصة؛ لما فيها من عنصر التشويق، وجوانب الاتعاظ والاعتبار. وقد ألمح القرآن إلى هذا في أكثر من آية من ذلك قوله تعالى: {
فاقصص القصص لعلهم يتفكرون
} (الأعراف:176)، إلى غير ذلك من الآيات التي تبين اعتماد القرآن أسلوب القصص، تحقيقاً لمقاصد وأغراض نتبينها فيما يلي.
معنى القصص
القَصُّ لغة: تَتَبُّعُ الأثر، وكذلك (القَصَصُ)، ومنه قولُه تعالى: {
فارتدا على آثارهما قصصا
} (الكهف:64)، أي: رجعا يقصان الأثر الذي جاءا به. وقال أيضاً في قصة
موسى
عليه السلام: {
وقالت لأخته قصيه
} (القصص:11)، أي تتبعي أثره حتى تنظري من يأخذه.وكذا اقتص وتقصص أثره. والقصة: الأمر والحديث. وقد اقتصَّ الحديث: رواه على وجهه. والقِصَص، بالكسر: جمع القصة التي تُكتب. وفي القرآن الكريم سورة القصص.
و(القصص) اصطلاحاً: الإخبار عن قضية ذات مراحل، يتبع بعضها بعضاً.
أنواع القصص القرآني
والقصص القرآني على ثلاثة أنواع:
الأول
: قصص الأنبياء، وقد تضمنت دعوتهم إلى قومهم، والمعجزات التي أيدهم الله بها، وموقف المعاندين منهم، ومراحل الدعوة وتطورها وعاقبة المؤمنين والمكذبين. كقصة نوح، وإبراهيم، وغيرهم من الأنبياء والمرسلين ، عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
الثاني
: قصص تتعلق بحوادث غابرة، كقصة الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، و
طالوت
و
جالوت
، وابني
آدم
، وأهل الكهف، وذي القرنين، و
قارون
، وأصحاب السبت، و
مريم
، وأصحاب الأخدود، وأصحاب الفيل وغيرهم.
الثالث: قصص تتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كغزوة بدر، وأُحد، وحُنين، وتبوك، والأحزاب، والهجرة، والإسراء، ونحو ذلك. ولا يخرج القصص القرآني عن هذه الأنواع الثلاثة.
مزايا القصص القرآني
يمتاز القصص القرآني بمزايا ينفرد بها عن القصص الإنساني، من ذلك أن القصص القرآني هو أصدق القصص، قال تعالى: {
ومن أصدق من الله حديثا
} (النساء:87). وقال عز وجل: {
إن هذا لهو القصص الحق
} (آل عمران:62).
والقصص القرآني هو أحسن القصص، قال سبحانه: {
نحن نقص عليك أحسن القصص
} (يوسف:3).
والقصص القرآني هو أنفع القصص، قال عز وجل: {
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
} (يوسف:111)؛وذلك لقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق.
علاوة على ذلك، فإن القصص القرآني يمتاز بسمو الغاية، وشريف المقصد، وصدق الكلمة والموضوع، وتحري الحقيقة، بحيث لا يشوبها شائبة من الوهم أو الخيال أو مخالفة الواقع.
عناصر القصص القرآني
لا بد لأي قصة من أن تقوم على عناصر معينة تشكل بنيانها، وعناصر محددة تحكم بنائها، بحيث يستقيم في مقياس النقد الأدبي أن يُطلق عليها مسمى قصة.
والقصة القرآنية لا تخرج عن هذا الذي تقرر؛ إذ إنها -من حيث الجملة- تتحدد من خلال ثلاثة عناصر رئيسة، هي: القالب والمضمون، الزمان والمكان، الأسماء والمسميات. ونتحدث عن كل عنصر من هذه العناصر باختصار شديد.
بخصوص عنصر القالب والمضمون، فإن القصص القرآني يستدعي الحدث التاريخي من أعماق الزمن، ويجمعه من وجوه الأرض؛ ليعرضه على الحياة من جديد، في مقام العظة والعبرة. وبعبارة أخرى: إنه يبعث الحدث التاريخي بعثاً جديداً، ويجعله حيًّا بعد أن كان ميتاً، كل ذلك بأسلوب شائق، ومضمون فائق.
أما بخصوص عنصر الزمن، فإن لكل قصة في القرآن زمنها الخاص بها. وعنصر الزمن في القصة القرآنية زمن مطلق من كل قيد، إلا قيد الماضي، فليست لهذا الزمن حدود تحده، بل هو حدث مضى وانتهى. وقل الشيء نفسه بخصوص عنصر المكان، فالقصص القرآني لا يلتفت إلى المكان، ولا يُجري له ذكراً إلا إذا كان للمكان وضع خاص يؤثر في سير الحدث، أو يبرز ملامحه، أو يقيم شواهد العبرة والموعظة، كما في قصة الإسراء، حيث ذكر القرآن مكان أحداثها للاعتبارات المتقدمة. أما إن لم يكن للمكان أي اعتبار من الاعتبارات المتقدمة، فإن القرآن لا يلتف غلى ذكر المكان، ولا يعول عليه، كما في قصة أصحاب الكهف، ونحوها.
وأما بخصوص عنصر الأسماء والمسميات، فإن القرآن إذا ذكر في قصصه أسماء الأشخاص، فإنما يذكر شخصية تاريخية معروفة، كذكره أسماء الأنبياء، وذكر بعض الأسماء التي تحدت دعوة السماء، ك
فرعون
، و
قارون
، و
هامان
، وغيرهم. وهناك شخصيات لم يذكر القرآن اسمها، ولم يكشف عن وظيفتها الاجتماعية في الحياة، بل اكتفى بذكر بعض ما لها من صفات نفسية، أو روحية، كصاحب
موسى
(
الخضر
)، ومؤمن
فرعون
، وصاحب
سليمان
.
وقد يعرض القرآن بعض الأسماء مجردة من أي صفة، مثل (رجل)، (قرية)، فهذه الأسماء نكرات لا تدعو ضرورة إلى تعريفها؛ لأنها لا تؤدي دورها في الحدث القصصي باعتبارات خاصة مميزة لها، وإنما هي مثل عام لجنسها. وهذا يفيد أنه من العبث الجري وراء معرفة أسمائها، أو تحديد صفاتها.
وعلى الجملة، فإن الله تعالى بقصه علينا القصص القرآني، يشير إلى بعض الحقائق الكونية الجارية حتى قيام الساعة؛ لأننا عندما ننظر إلى العناصر التي يستعملها القرآن نراها غير مختصة بزمن معلوم أو مكان معلوم، أو بشخص معلوم. وهذا هو المنتظر أصلاً من كتاب كوني..فالحوادث التي ذكرها القرآن تتكرر على مر الزمان تحت صور مختلفة، ولكن بالماهية نفسها.
مقاصد القصص القرآني وأغراضه
القصد الرئيس من القصص القرآني هو الاطلاع على أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية؛ ليعلم المطلع على ذلك سعادة من أطاع الله، وشقاوة من عصاه؛ وهذا يعني أن القصد من القصص القرآني ليس السرد والرواية، وإنما ما تحمل تلك الأخبار والقصص من مواعظ وعبر، ترشد قارئها إلى اتباع سبل الفلاح والرشاد، وتجنبه طرق الزيغ والضلال. قال أبو عبيد : إن القصص التي قصها الله تعالى عن الأمم الماضية وما عاقبهم به ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين، إنما هو حديث حدث به عن قوم، وباطنها وعظ الآخرين، وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم، فيحل بهم مثل ما حل بهم. وقريب من هذا ما ذكره
ابن عاشور
من "أن من مقاصد القرآن في ذكر القصص الماضية أن يعتبر بها المسلمون في الخير والشر".
فوائد القصص القرآني
لا شك، أن القصص القرآني ليس القصد منه سرد أخبار من مضى وما انقضى، بل القصد الأساس منه تحقيق فوائد محددة، وأهداف مبتغاة، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
- إيضاح أسس الدعوة إلى الله، وبيان أصول الشرائع التي بعث الله بها كل نبي، قال سبحانه: {
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
} (الأنبياء:25).
- تثبيت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلوب أمته على دين الله، وتقوية ثقة المؤمنين بنصرة الحق وأهله، وخذلان البطل وأعوانه: قال سبحانه: {
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك
} (هود:120).
- تصديق الأنبياء السابقين، وإحياء ذكراهم، وتخليد آثارهم.
- إظهار صدق
محمد
صلى الله عليه وسلم في دعوته بما أخبر به عن أحوال الأمم الماضية.
- إقامة الحجة على أهل الكتاب فيما كتموه من البينات والهدى، وتحديهم بما كان في كتبهم قبل تحريفها وتبديلها، كقوله سبحانه: {
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين
} (آل عمران:93).
- حصول الاعتبار والادكار والافتكار في القصص القرآني، قال سبحانه: {
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
}، وقال أيضاً: {
فاقصص القصص لعلهم يتفكرون
}.
- بيان حكم الله تعالى فيما تضمنته هذه القصص من أحكام، قال عز من قائل: {
ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة فما تغن النذر
} (القمر:4-5).
- إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أخبار الأمم السابقة لا يعلمها إلا الله سبحانه، قال تعالى: {
تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا
} (هود:94)، وقال أيضاً: {
ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله
} (إبراهيم:9).
التكرار في القصص القرآني
التكرار في القصص القرآني ظاهرة واضحة، ملفتة للنظر، وداعية لكثير من التساؤل والبحث. وعلى الجملة، فإن التكرار في القصص القرآني لم يأت عبثاً من غير طائل، بل جاء لغايات محددة ومقصودة. وقد ألف قاضي الجماعة
ابن جماعة
كتاباً سماه "المقتنص في فوائد تكرار القصص"، وذكر في تكرير القصص جملة فوائد:
منها: أن في كل موضع زيادة شيء لم يذكر في الذي قبله، أو إبدال كلمة بأخرى لنكتة، وهذه عادة البلغاء. وقد فصَّل
الزركشي
هذه النقطة بقوله: "القصة الواحدة..وإن ظُن أنها لا تغاير الأخرى، فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ، فإن كل واحدة لا بد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد فيه، لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها". وهذا يعني: أن كل مرة تُعْرَض فيها القصة تَكشِف عن جانب من جوانبها، أو تجسم صورة من صورها، أو تكمل حدثاً من أحداثها.
ومنها: أن في إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة ما لا يخفى من الفصاحة. وقد عبر عن هذه الفائدة
الباقلاني
في كتابه "إعجاز القرآن" بقوله: "إن إعادة القصة الواحدة بألفاظ مختلفة، تؤدي معنى واحداً، من الأمر الصعب الذي تظهر فيه الفصاحة، وتبين البلاغة"، وهو بهذا يريد أن يقول: إن عرض الموضوع الواحد بأساليب مختلفة، من غير أن تتغير معالمه، ودون أن يضعف أسلوب عرضه، هو من العسير الذي لا يقدر عليه إلا من كان ذا ملكة بيانية، واقتدار بلاغي.
ويقول أيضاً في هذا الصدد: "وأعيد كثير من القصص في مواضع مختلفة، على ترتيبات متفاوتة، ونُبِّهوا -أي العرب- بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله، مبتدأ ومكرراً"، وهو بهذا يريد أن يقرر: أن من صور التحدي الذي عجز عنه العرب إزاء القرآن عرض القصص القرآني عرضاً متفاوتاً بين الطول والقصر، وقد وسَّع عليهم بهذا مجال المعارضة، فلم يكن إلا العجز. وقد صحح
ابن فارس
هذا القول في سبب تكرار القصص القرآني.
ومنها أيضاً: أن النفوس جُبلت على حب التغيير والتنويع، والسآمة من المُعاد والمكرر على هيئة وشاكلة واحدة، فراعى الأسلوب القرآني هذا الجانب في النفس البشرية، فنوَّع في أسلوب عرض هذه القصص؛ كي لا تمل النفوس التكرار ولا تسأم منه.
منهج التعامل مع القصص القرآني
الحوادث التي يشتمل عليها القصص القرآني إنما هي قطع من أحداث الحياة، جاء بها القرآن الكريم، وبعثها من الماضي كما هي، دون أن يدخل عليها شيئاً، يغير حقيقة من حقائقها. والتزام النص القرآني واحترامه، والوقوف به عند دلالات ألفاظه اللغوية..هو الذي ينبغي أن نقف عنده، وأن نأخذ به أنفسنا في كل موقف نقفه من آيات الكتاب الكريم، وخاصة في القصص القرآني، وما اشتمل عليه من أحداث ووقائع وأشخاص.
والذي ينبغي التنبه إليه -ختاماً- أن القرآن يضع القصة في إطار ديني، تنفذ معه أشعة روحية إلى النفوس ببيان العبرة الأخلاقية والتربوية التي من أجلها أنزل الله القصة.