طبيعة القيم الغربية والتعامل معها
الوصف:
القيم الغربية هذه التي تجعل من الغرب كله أمة واحدة في مقابل الأمم الأخرى، ومنها الأمة الإسلامية؟ إن الذي يكادون يجمعون عليه هو ما يعدّونه من مصادر ثقافتهم العامة أو مكوناتها؛ وهو الفكر اليوناني، والحضارة الرومانية، والديانتان: اليهودية والنصرانية، والفلسفة الليبرالية، والديمقراطية، وحركات الإصلاح والنهضة والتنوير.
فكيف صارت تلك المصادر والمكونات المتنافرة شيئاً واحداً يسمى بالقيم أو الثقافة الغربية؟
1 ـ لكونها كلها جزءاً من تاريخهم الذي ما يزالون يدرسونه في مدارسهم وجامعاتهم، والذي ما يزالون يكتبون عنه ويتأثرون به.
2 ـ لأنه ما من مكَوَّن من مكوناتها إلا وله أنصار كبار من المفكرين أو من الجماعات أو الأحزاب.
3- لأن العلمانية، وهي امتداد للشرك الموجود في كل تلك العناصر، قد صارت هي الثقافة الطاغية التي يعاد تفسير العناصر الأخرى ـ بما فيها العناصر الدينية ـ لموافقتها. وصارت هذه الأديان تُمدح ويُتسامح معها بقدر تصالحها مع العلمانية وخدمتها لها. وفيهم من صرح : إنّ النصرانية لا غيرها هي الأساس النهائي للحـرية والضـمير وحـقوق الإنسـان والديـمقراطية، وهذه هي أهم معايير الحضارة الغربية.
والنصارى بدورهم صاروا يفسرون الدين تفسيراً يتوافق مع أهواء عصرهم. فأكثر كُتّابهم اليومَ لا ينكرون الشذوذ.
4 ـ لأن الفكر العلماني وما يستتبعه من قيم صار هو الفكر الطاغي الذي يمثل الإطار العام للثقافة الغربية وقيمها؛ فقد أضحت الخلافات خلافات في داخل هذا الإطار فلم تعد ذات خطر. ولذلك نجِدُ الملحد والنصراني أستاذين في كلية واحدة، ونجد الشاذ وغير الشاذ جنديين في جيش واحد، وصار النساء كلهن يتبعن مظهراً واحداً، وهكذا.
5 ـ صحيح أنه لا تكاد تخلو أمة حتى من فاحشة الشذوذ بعد أن سنّها قوم لوط، وأن الشعور بالكبر قد يكون أيضاً طابعاً لأمة لا تنتمي إلى الحضارة الغربية، وأن الشرك موجود حتى بين المنتسبين إلى الإسلام؛ لكن هنالك فـرقاً بـين أن يكـون الـزنا، أو الشـذوذ، أو الجهر بالسوء من القول، في نظر الأمة جريمة أو ذنباً يستنكره مجتمعها ويعاقب عليه قانونها، وأن يكون أمراً مقبولاً لا يستنكره مجتمع ولا يعاقب عليه قانون، وإنْ استنكره بعض الأفراد.
6 ـ هذه العناصر، ولا سيما عنصر الكبر، هي التي زيّنت للغربيين احتلال الشعوب الأخرى، واستعمارها، واسترقاق بعض أهلها. لقد كانت الحركة الاستعمارية الاحتلالية حركة اشترك فيها، أو شجعها، أو وافق عليها، قادة الثقافة الغربية كلهم إلا ما ندر. لم تكن حركة سياسية فحسب؛ وإنما كانت حركة اشترك فيها الكتاب والشعراء والفلاسفة ورجال الدين، كما بيّن بعض ذلك إدوارد سعيد في كتابه عن الثقافة والاستعمار.
إننا إزاء تحدٍّ كبير على ديننا وأمتنا؛ فماذا نحن فاعلون؟ ليس هذا بالسؤال الذي يختص بالإجابة عنه فرد واحد؛ لأنه سؤال للأمة كلها: علمائها، وزعمائها، وعامتها. فالإجابة هي:
أولاً: أن ننأى بأنفسنا عن مشاعر الحزن والضيق والأسى فإنها مـشاعـر سلبـية لا تحل مشكلة خارجية، وإنما تنشئ مشكلات نفسية. وما أكثر ما يحذرنا كتابُ ربِّنا من أمثال هذه المشاعر السلبية! وما أكثر ما يُذكرنا علماؤنا الأفاضل بهذه المعاني القرآنية! فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول في معرض تعليقه على حديث «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ»:
وكثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغيُّر كثير من أحوال الإسلام جزع وكل وناح كما ينوح أهل المصائب. وهو منهي عن هذا؛ بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى.
ثانياً: أن نكون على يقين بأن مداهنة أعداء الحق ومحاولة إرضائهم بالاستجابة لمطالبهم بتغيير هذا الدين وإعادة تفسيره بما يتناسب مع أهوائهم المعاصرة، أن هذا فوق كونه خيانة علمية؛ فإنه لن يجدي شيئاً في حل المشكلة. نعم! إن الأعداء سيرضون عن كل محرف للدين بمقدار تحريفه؛ لكن هذا التحريف لن يزيدهم إلا شراً؛ إذ يرون أن المسلم المحرف يقترب منهم مع أنهم ثابتون في مكانهـم؛ فيطمعون منه ثم من غيره في قرب أكثر، ويحاولون أن يجعلـوا منه وسيلة للكيد من إخوانه المسلمين. لكن القاعدة هي ما قال الله ـ تعالى ـ عن كل من زين له عمله: أنه لن يرضى عنك رضى كاملاً إلا إذا اتّبعت ملته: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 89].
ثالثاً: إن الرؤساء الغربيين يصرحون بأن الحرب علـى ما يسمونه بالإسلام الراديكالي حربان: حرب أيديولوجية، يقولون: إنها لكسب العقول والقلوب، وحرب سنانية تساعد على تحقيق أهداف الحرب الأيديولوجية. أما نحن فما نزال منتصرين في ما أسموه بالحرب الأيديولوجية. إن ديننا هو الذي يزحف نحوهم ويكسب كل يوم من عقولهم وقلوبهم، وإن أديانهم وقيمهم وأيديولوجياتهم هي التي تولّيه الأدبار. وهذا أمر يدعونا إلى المضيّ، لا إلى التواني في نصرة ديننا بالحجج العقلية والعلمية والمعايير الخلقية. إن مشكلتنا هي في الحرب السنانية؛ لقد فرطت أمتنا في الأخذ بالأسباب العصرية لاكتساب القوة التي دعاها ربها إلى إعدادها. لقد آن الأوان لأن نبذل جهوداً كبيرة في اكتساب العلوم الطبيعية المرتبطة بالتقنية والمساعدة على اكتساب القوة الاقتصادية والعسكرية. ويجب أن تكون هذه الجهود على مستويين: مستوى شعبي عام ينشر مبادئ هده العلوم بين الناس ويجعلها جزءاً من ثقافتهم الشعبية، ومستوى تخصصي تتعاون فيه الدول العربية على الأقل، حتى يكون لنا علماء مبرزون مكتشفون ومخترعون ومنظرون في كل المجالات المرتبطة بالتقدم التقني.
إننا لا نريد أن نكون أقوياء لنعتدي على غيرنا، وإنما لنرهب ونردع من تحدثه نفسه بالاعتداء علينا. إننا نعلم أن السِّلم في مصلحتنا، نعلم هذا من ديننا ومن تجاربنا، فنحن حريصون عليه، واثقون بأن عاقبته خير إن شاء الله.
رابعاً: بما أن الغرب ليس كله كتلة واحدة صماء معادية للإسلام، بل فيه جاهلون بهذا الدين، وفيه مغررون، وفيه منصفون مدافعون عن حقوق الناس، وفيه عقلاء يرون أنه ليس من مصلحتهم شن حروب شاملة دعائية كانت أم قتالية على الثقافات الأخرى، وفيه... وفيه...؛ فيجب عند المعاملة ألّا نشمل الجميع بخطاب واحد لا يميز بين محق ومبطل، ومعتدٍّ ومنصف. إن التفرقة بين هذه الأصناف، ومعاملة كلٍّ بحسب موقفه، أمرٌ يتطلبه العدل الذي يقوم عليه بنيان الدين الحق، ثم إنه سياسة مربحة تؤدي إلى نتائج أفضل.
خامساً: لكن التقدم الحقيقي لأمتنا لا يكتمل إلا بتقدم آخر لا يحتاج منا إلى جهد كبير. فكما نأخذ بوسائل عصرنا في التقدم العلمي التقني، فكذلك يجب أن نعتبر مقتضياته في الإصلاح السياسي. إننا لا نريد أن نكون أمة تابعة تترك الأصالة لغيرها ثم تقلده في كل ما رآه مناسباً له من مؤسسات ومبادئ وأسماء. نريد أن نكون أمة أصيلة تؤمن بأن كتاب ربها هو دستورها الأعلى، ثم تأخذ منه المبادئ السياسية العامة، ثم تنشئ لنفسها من المؤسسات ما يناسب تلك المبادئ من مؤسسات تتناسب مع عصرها. إن كل من له أدنى معرفة بالإسلام يعلم أن مبادئ مثل: حكم القانون، والشورى، واختيار الحكام، وحرية الرأي وحقوق الإنسان، التي صار الناس يربطونها بالديمقراطية، هي مبادئ إسلامية بيّنتها النصوص، وطبّقها النبي وخلفاؤه الراشدون.
وإذا كان مثل هذا الإصلاح أمراً يستوجبه ديننا وتستدعيه ظروفنا؛ فإنه أيضاً أمر لازم لتحسين صورتنا العالمية التي صارت ترتبط في أذهان الكثيرين، ولا سيما في الغرب، بالدكتاتورية والفيودلية والثيوغراطية، ويقال عن جهل أو سوء قصد: إنها من تعاليم ديننا.
ـــــــــــــــ
أ. د. جعفر شيخ إدريس (البيان 234) بتصرف.