ثقافة التخصـص
الوصف:
لثقافة التخصص علاقة وثيقة بثقافة الإنجاز التي تحتاجها الأمة اليوم أكثر من أي وقت مضى ،وذلك أن عدم التمييز بين مجال الاهتمام، ومجال التأثير وعدم مراعاة السنن الاجتماعية من العوائق الثقافية التي تقلل من ضعف فاعليتنا الحضارية، هناك أيضا عائق ثقافي آخر يتجلى في وهم الشمولية وضعف ثقافة التخصص
.
الشمولية التي نتحدث عنها ليست هي الإدراك التراكمي الفعال الذي يؤدي إلى وضع الشيء في سياقه واعتبار حجمه وعلاقته بالأشياء ،فتلك سمة ثقافية نادرة أيضاً في محيطنا الثقافي . لكن الشمولية التي نقصد هي الزعم بالقدرة على أن يكون الواحد أو المجموعة في جميع المساحات وإنجاز جميع المهام والوفاء بجميع الاهتمامات
.
إن الطابع المركب لعملية الإصلاح وتعدد مداخلها وما تقتضيه من شمولية في الرؤية والتصور لا يعني
استنساخ تجارب الآخرين ، ولا يعني أن يكون الإبداع والعمل متمحوراً حول شخص واحد ، أو مرتكزاً على أشخاص بعينهم بحث يضيع بغيابهم أو عدم قدرتهم على العطاء .
ومن دون شك فإن عدم التمييز بين الشمولية في التصور وبين التخصص في التنزيل والإنجاز هو أحد أسباب ضعف الأداء وقلة الإتقان ، ومن ثم ضعف التراكم في تحصيل المكتسبات والإحباط أو اليأس من الإصلاح الذي قد يسقط فيه البعض .
فالإحباطات التي واجهت كثيراً من التجارب الإصلاحية والمشاريع العلمية والثقافية والاجتماعية ناشئة من كون بعض التجارب كانت تريد إعادة كتابة التاريخ وإصلاح أخطائه والاشتغال في جميع المساحات وعلى جميع الواجهات
.
قليلاً ما تجد فيما هو سائد لدينا من ثقافة شمولية من يعكف على فكرة أو مشروع واضح محدد ويفني فيه عمره، ويخلف فيه أثراً لم يسبق إليه ليصبح فيه مرجعاً لا غنى عنه ،
ولذلك فمن أهم مداخل إصلاح نظام الثقافة إعادة بناء ثقافة التخصص وتطوير ثقافة
الإتقان و الجودة .
وفي مرجعيتنا الإسلامية من المبادئ والأحكام ولتوجيهات ما يشهد لهذا التوجه ،فالقرآن الكريم يدعو الأمة إلى النفير العام حين يكون المجتمع مهدداً في وجوده ، ولكنه في نفس الوقت يدعو إلى نفير من نوع خاص أي أن تقوم في الأمة فئات خاصة للاضطلاع بمهام خاصة ، وهو ما بلوره الفقه الإسلامي حين ميز بين
الفروض الكفائية والفروض العينية ، فالفروض الكفائية تعني فروضاً تبقى في ذمة الأمة ما لم تنفر طائفة منها للاعتكاف عليها وتحقيق الكفاية فيها كماً وكيفاً، فقد قال الحق تعالى : ''
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم لعلهم يحذرون
'' إشارة إلى ضرورة نفير طائفة للتخصص في وظيفة من الوظائف وهي في هذه الحالة التفقه في الدين والعلم بأحكامه من أجل تعليم الناس ، وإثراء حياتهم بالمعارف والعلوم النافعة.
وفي سورة المزمل التي نزل أولها يأمر المسلمين بقيام الليل ـ فكان واجباً عليهم بدءً وكان المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومون أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وكان في ذلك مشقة كبيرة عليهم ـ نزل آخرها يخفف عن المسلمين ويبرر ذلك بأن في الأمة جماعات و أفراد لهم انشغالات وانتشار في عدة مجالات وتخصصات ، وذلك قوله تعالى : ''
إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى
من ثلثي اليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر اليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل
الله فاقرءوا ما تيسر منه
..
''
وفي السنة النبوية ما يشجع ويغرس التوجه نحو ثقافة التخصص وذلك حين تؤكد على مطلب الجودة أو الإحسان ، ولا جودة ولا إتقان إلا بالتخصص ، فالله تعالى كما ورد في الحديث كتب الإحسان على كل شيء ، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا بالرحمة لمن عمل عملاً فأتقنه ومع التخصص والإتقان هناك تأكيد إسلامي على الاستمرارية والتراكم باعتبار أن نتيجتها الإجمالية هي الإنجاز والإتقان ولذلك في الحديث : '' أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل
''
لكن الاستمرارية والتراكم مرتبطة بالوضوح في الأهداف والوعي الواضح بالسنن ومساحات التأثير ، وأن لا يصبح مجال الاهتمام ووهم الشمولية حاجزاً دون الإنجاز في مساحة الممكن لأن الله تعالى كما يقول ابن تيمية لم يأمر بالمتعذر، "
وما جعل عليكم في الدين من حرج
"
ثقافة التخصص وتشجيعها يقتضي التقليل من نزعات المركزة وتعزيز ثقافة التفويض، والتفويض يعني الثقة في الكفاءات وإفساح المجال للشباب، فالمركزة المفرطة تعطيل للذات وتعطيل للآخرين ، بينما ثقافة التخصص تفسح المجال للتفويض وظهور الكفاءات، وتفتح السبيل للأداء الجماعي
___________
منبر الإصلاح الموريتاني بـ"تصرف"